بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 7 فبراير 2011

حبيبتى: ماذا يعدون لمواجهة المد الإسلامي ؟ الدول الغربي...

حبيبتى:
ماذا يعدون لمواجهة المد الإسلامي ؟


الدول الغربي...
: "ماذا يعدون لمواجهة المد الإسلامي ؟ الدول الغربية ولا سيما الولايات المتحدة حريصة كل الحرص على أن يدوم لها تفوقها المادي ( الاقتصادي والعس..."

خبط عشواء..أم تقدير حكيم؟


خبط عشواء..أم تقدير حكيم؟




في العشرين من ديسمبر من السنة الماضية أصدر قاضٍ أمريكي بولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة حكما بأن تدريس النظرية المسماة التصميم الذكي(1) في المدارس الحكومية (وهي نظرية معارضة لنظرية التطور) أمر مخالف للدستور. وكان السبب الذي علل به حكمه هو أن النظرية نظرية دينية لا علمية؛ لأنها تشير إلى الخالق.
مـاذا تـقول هذه النــظرية؟ وعـلامَ يـدل هـذا الحـكم؟ ثـم مـا العلاقة بين الداروينية والمعتقدات الدينية؟
هذا ما سنعرض له بإيجاز في هذا المقال.
أما النـظرية فـإن أكـثر مـن اشتـهر بها من علماء الأحياء في الأيـام الأخـيرة، ودافـع عنها دفـاعاً علمـياً أقـر به خصـومه، هـوMichael Behe الأسـتاذ فـي عـلم الأحياء الكيـماويـة فـي كـتاب لـه صـدر فـي عـام 96 بـعنـوان (صـندوق دارْوِن الأسود: التحدي الأحيائي الكيماوي للتطور)(2).
قال المؤلف في كتابه هذا إن الأحياء الدقيقة مثل الخلية كانت بالنسبة لدارْوِن أمراً مجهولاً ـ صندوقاً أسود لا تعرف محتوياته، وأن نظريته لا تفسر أشياء مهمة مثل الخلية التي هي أساس الكائنات الحية. وكانت حجته الجوهرية أن تركيب هذه الكائنات يدل على أنها لا يمكن أن تكون قد تطورت، وأنها صممت منذ البداية لتؤدي وظيفتها، وأنه لا بد أن يكون قد صممها مصمم حكيم(3).
وذكـر فـي كتـابه بأن دارْوِن نفسه كان قد قال إنه إذا أمكن أن يقـام دليـل علـى وجـود كـائن حـي مركب ما كان من الممكن أن يتكون من تغيرات كثيرة طفيفة متتالية، فإن نظريتي ستنهار انهياراً كاملاً(4). ما طبيعة هذا الكائن الأحيائي الذي تنطبق عليه هذه الصفات؟ يقول المؤلف بإيجاز: إنه النظام المكون من أجزاء متفاعلة متوائمة يسهم كل منها في الوظيفة الأساسية للنظام، بحيث إنه لو أزيل واحد منها توقف النظام عن العمل. إذا وجد نظام أحيـائي بهذه المثابة فإنه سيمثل تحدياً عظيماً للداروينية؛ لأن الاختيار الطبيعي إنما يعمل على كائنات فاعلة، ومثل هذا الكائن لا يفعل، لا يؤدي وظيفته إلا إذا اكتمل تركيب أجزائه كلها.
وأعطى في مقدمة كتابه فكرة مبسطة لمفهوم التركيب المعقد الذي ليست له أجزاء بسيطة. ضرب المؤلف مثلاً لنوع هذا التركيب بشَرَك اصطياد الفئران. هذا الشَّرَك مركب من خمسة أجزاء لا يعد أي منها شركاً في مرحلة بدائية؛ فالقاعدة الخشبية مثلاً لا تؤدي وحدها أي وظيفة من وظائف الشرك، وكذلك الحال بالنـسبة للزنبرك وسائر الأجزاء. إن هذه الأجزاء لا تكون شَرَكاً إلا بتركيبها هذا التركيب المعين الذي قصد منه أن يجعل منها شركاً.
أما الكائنات التي يمكن أن تتطور والتي اعتمد عليها دارون في نظريته؛ فإن كل مكون من مكوناتها يمثل طوراً من أطوار تطورها، ويؤدي شيئاً من وظيفتها وإن كان بدائياً. ومهمة النظرية الداروينـية هي أن تفسر لنا الطريقة التي ينتقل بها هذا الكائن من طور إلى طور بما أسماه الانتخاب أو الاصطفاء الطبيعي.
فالكائنات التي يمكن أن تصلح لتفسيرها نظرية دارون هي كائنات من هذا النوع الذي يمكن أن يتطور. أما الذي لا تنطبق عليه هذه الصفة، والذي لا تكون أجزاؤه مرحلة من مراحل نموه كالشَّرَك، فإن النظرية لا يمكن أن تفسره، بل إن تركيبه ليدل على أنه جاء نتيجة تقدير لموجد حكيم.
لم يكتـف المـؤلف بـهذا بـل أضاف إلى أن مما يثبت قوله بأن نظرية دارون لا تستطيع تفسير مثل هذه الكائنات الجزيئية أن أحداً لم يستطع حتى الآن أن يفسرها بها. فمن بين آلاف البحوث التـي كتبـت فـي موضوع الكيمياء الحيوية، لم تكتب إلا ثلاثة بحوث في هذا الموضوع، ولم ينجح واحد منها في تطبيق الداروينية عليها.
يبدو من هذا الكلام أن صاحب نظرية التصميم الذكي قد زعم أنه يعتمد في دعواه على حقائق حسية، واستنتاج عقلاني. فعلى الذين يخالفونه أن يبينوا زيف ما قال بحجج مماثلة. وقد حاول بعضهم أن يفعل هذا.
وقد استمع القاضي إلى شهود من أمثال هؤلاء انتقدوا النظرية على أساس علمي. لكن القاضي لم يعتمد في حكمه على مثل هذه الشهادة، بل اعتمد على أيدلجية مادية إلحادية شاعت في عصرنا حتى صارت جزءاً من مفهوم العلم. فحوى هذه الأيدلجية هو أن الكون الطبيعي كون مكتفٍ بنفسه؛ فالتفـسير العلمـي لمـا يحـدث فيـه يجـب أن يكـون بـأسـباب مـن داخله، وأن كل إشارة إلى سبب فوق الطبيعة، كتعليل الحوادث بقدرة الله ـ تعالى ـ تعليل غير علمي. وقد عبر أحد الشـهود، وهـو أستـاذ مختص بفلسفة العلوم عن هذا الرأي؛ إذ قـرر أنـه بمـا أن القضـية الأسـاس لنـظرية التصـميم هـي أن معالم العالم الطبيعي أحدثها كائن متعال غير مادي وغير طبيعي؛ فإن نظرية التصميم هي قضية دينية بغض النظر عن كونها سميت بهذا أو لم تسمَّ(1).
أنا لم أستغرب حجة القاضي هذه؛ لأن هذا هو المفهوم الشائع للعلم، وهو مفهوم فلسفي واعتقادي غالط لا علاقة له بالعلوم، كما كان بعضنا قد قال ذلك منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وبنوا عليه الدعوة إلى ما سمي آنذاك بأسلمة العلوم. ولم يكن القصد من الدعوة إلى الأسلمة أن نغير الحقائق العلمية كما ظن بعض من اعترضوا على الفكرة؛ لأن ديننا يقوم على الحق، فلا يحتاج إلى تغيير حقيقة مهما كان نوعها. هو أن توضع الحقائق كلها الطبيعية والاجتماعية والنفسية في إطار إيماني بدلاً من الإطار المادي الإلحادي الذي توضع فيه الآن، والذي يؤدي إلى جعل الدين بالضرورة أمراً مخالفاً للعلم الطبيعي.
< الدارونية ووجود الخالق:
لو أن كل الوقائع التي اعتمد عليها دارون في نظريته كانت صحيحة، ولو أن كل العلاقات السببية الطبيعية التي فسر بها تطور الكائنات الحية كانت أيضاً صحيحة، لم يكن في هذا كله ما يدل على عدم وجود الخالق، أو الاستغناء عنه. فالقول بالإلحاد ـ هو كما قلت ـ اعتقاد لا علاقة له بالعلم، ويمكن لذلك أن يضاف إلى كل نظرية علمية. فكلما اكتشف العلماء سبباً طبيعياً لظاهرة من الظواهر الكونية عزوا سببها إلى ذلك السبب الطبيعي، وزعموا أنه يغني عن القول بوجود خالق، هذا اعتقاد قديم وليس من العلم الحديث في شيء. فالذين روى الله لنا قولهم: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] كانوا يعتقدون مثل هذا الاعتقاد، والذين فسروا التاريخ بقولهم: {قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف: 95] كانوا أيضاً منكرين لوجود الخالق معتقدين أنه ليس وراء حوادث الكون مدبر وأنها تقع خبط عشواء.
أمـا المؤمنـون فإنـهم لا ينكـرون فاعلية الأسباب الطبيعية، أو المقدرات البشرية. هل رأيت مؤمناً ينكر أن الطعام يغذي، والماء يروي، والدواء يشفي؟ لكنهم مع اعتقادهم بفاعلية الأسباب إلا أنهم مؤمنون بأن لها خالقاً هو الذي جعلها أسباباً، وأنه لا تنافي بين فاعلية الله وفاعلية الأسباب الطبيعية أو فاعلية الإرادة البشرية؛ لأن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلق الأسباب وجعلها أسباباً، ولأنه ـ سبحانه ـ من عادته أن يفعل بالأسباب كما كان علماؤنا يقولون.
نعود إلى نظرية دارون فنقول:
1 ـ إنها تبدأ بالتسليم بحقائق لا تفسرها، لكنها تعتمد عليها. فهي تبدأ بأن هنالك كائنات حية، وأن هذه الكائنات تتكاثر بالتنـاسل، وأن المـولود يـرث بعـض خصائص الآباء، وأنه لا يوجد كائـنان حيـان متـماثلات تمـاثلاً كامـلاً في صـفاتهـما. وإذا كانت لا تفسر وجود هذه الحقائق فأنى لها أن تنفي أن لها خالقاً؟
2 ـ تفترض النظرية أن للكائنات الحية كلها أصلاً واحداً تكاثرت عنه.
3 ـ مهمة النظرية هي أن تفسر هذا التكاثر، أي أن تبحث عن الأسباب الطبيعية التي تجعله ممكناً وبهذه المثابة التي نشاهدها.
4 ـ تقرر النظرية حقيقة مشهودة هي أن الموارد الطبيعية التي تعتـمد عليـها الكائنات الحية في وجودها محدودة، ولذلك لا يمكن أن تتكاثر تكاثراً لا يحده شيء، بل لا بد أن ينقرض بعضها ويبقى بعضها.
5 ـ تقول النـظرية إن «الميـكانزم» الـذي يجعل هذا ممكناً هو ما أسماه دارون بالانتخاب الطبيعي. أي أن الطبيعة تنتخب بعض الكائنات للبقاء، وتحكم على بعضها بالفناء. لكن عبارة الانتخاب الطبيعي ليست عبارة علمية؛ إذ إنها تعني أن هنالك شيئاً اسمه الطبيعة هو الذي ينتخب، والانتخاب فعل إرادي؛ ولذلك قال دارون إن غيره أسمى هذه العملية بالبقاء للأصلح، ولم يعترض عليه.
6 ـ فحوى الفكرة التي سميت خطأ بالانتخاب الطبيعي هي أن هنالك علاقة بين الكائنات الحية والبيئة التي تعيش فيها. والمقصود بالبيئة كل سبب خارجي يؤثر في حياتها؛ فهي تشمل وجود حيوانات أخرى، كما تشمل المناطق الجغرافية والأحوال المناخية، وغير ذلك. وبما أن الكائنات الحية حتى التي تنتمي إلى مجموعة واحدة كالكلاب مثلاً أو الأرانب، لها صفات مختلفة، فإن ما كانت صفاته مُعِينةً له على العيش في البيئة المعـينة التـي وجـد فيـها، كانـت فرصـته في البـقاء أحـسن مـن فرصة من كانت بعض صفاته غير مناسبة مع بيئته. فالحوانات والنباتات تخـتلف في ألوانـها مثـلاً؛ فقد يكون لونٌ ما كالبياض مثلاً مناسباً مع بيئة معينة وغير مناسب مع بيئة أخرى، أعني من حيث فرص البقاء أو الفناء. ضرب أحدهم مثلاً بأنه إذا كانت هنالك أرانب برية في الاسكيمو وكان بعضها أبيض اللون وبعضها بنياً، وكان هنالك مصطادون للأرانب، فـإنه سـيكون من السـهل عليـهم رؤيـة الأرانـب البنية، وعليه فإن عددها سيقل وربما انقرض إذا استمر الصيد.
إن إنساناً مؤمناً قد يوافق دارون على كل هذا، ويرى فيه تفسيراً طبيعياً لظاهرة بقاء بعض الحيوانات وانقراض بعضها، بـل ولتطـورهـا، ولا يـرى فـيه ما يتناقض مع إيمانه بالخالق، بل يقول: إنه كما أن الله ـ تعالى ـ جعل النار وسيلة للإحراق، والماء وسيلة للإنبات، فقد جعل هذه أسباباً لتطور الحيوانات.
7 ـ حتى القول بأن للحيوان كله أصلاً واحداً نما عنه وتكاثر، ليس فيه ـ سواء كان حقاً أو باطلاً ـ ما يتناقض مع وجود الخالق وفاعليته.
8 ـ إن فكرة التطور التي رأى فيها بعض أهل الأديان غير الإسلامية ما يتناقض مع تصورهم للخلق، لا تتناقض مع التصور الإسلامي له. وذلك لأن الخلق عندنا ليس أمراً يحدث مرة واحدة كما صورته تلك المعتقدات. إن الخلق في التصور الإسـلامي أمـر مسـتـمر، فمـا مـن حـادث يحـدث في الكون إلا بمشيئة الله ـ تعالى ـ وقدرته. فالله ـ تعالى ـ خالق كل شيء. فكل مرحلة من مراحل تطور الجنين في بطن أمه مثلاً هي من خلق الله تعالى.
9 ـ الذي يتنـاقـض مـع الإسلام في الداروينية هو القول بأن البشر تطوروا عن حيوانات قبلهم. إن الله ـ تعالى ـ قادر على أن يفعل هذا، لكنه أخبرنا بأنه كرم الإنسان فخلقه خلقاً خاصاً، ولم يجعله متطوراً عن حيوان قبله. وقد اعترف بعض من يسمون بالداروينيين الجدد بأن هنالك خطاً فاصلاً بين الإنسـان ومـا سبقه من حيوان، وأن هنالك خصائص إنسانية لا يمكن ردها إلى أصول حيوانية سابقة للإنسان.
لكن القول بخصوصية الإنسان لا يعني أنه مختلف في كل شيء عن سائر الحيوان، ولا يعني اتفاقه معها في بعض الخصائص أنه تطور عنها. بل إن الذي خلقه هو خالق الحيـوانات قبـله، وهـو الذي جـعل بينها وبينه شبهاً. ألا ترى أن صانع السيارات ـ ولله المثل الأعلى ـ يمكن أن يصنع سيارة تمتاز عما سبقها من سيارات، لكنها تشابهها في بعض صفاتها؟
دلالة التصميم على وجود الخالق:
الأدلـة عـلى أن للـكون خـالقاً كثـيرة؛ لكـن مـن أشـهرها مـا يسمى بالدليل الكوني ودليل العناية. أما الدليل الكوني ففحواه أن الشيء الحادث لا يمكن أن يخلق نفسه ولا أن يأتي من العدم، بل لا بد أن يكون له صانع من غير نفسه، وأن هذا الصـانع لا بـد أن يكـون غـير حادث. المنـكرون لوجـود الخالق لا يستطيعون أن يفسروا وجود الكائنات الحادثة إلا بأن يقعوا في أحد الخيارين المستحيلين: إما أن يقولوا إن الشيء خلق نفسه، أو يقولوا إنه جاء من العدم.
أما دليل العناية الذي اعتمد عليه صاحب كتاب (الصندوق الأسود) فدليل قديم ومعروف، فحواه أن في الكون تصميماً يدل على أنه لا يمكن أن يكون خبط عشواء وإنما هو تقدير خالق حكيم. هذا التصميم أمر يدركه كل متفكر في الكون وليس قاصراً على الأمثلة التي استدل بها صاحب الكتاب. إن هنالك شمساً، وهنالك بحراً، وهنالك سحاباً، وهنالك أرضاً، وهنالك بشـراً، وهنـالك حيـوانات يقـول لك الدلـيل الكونـي إنه لا بـد أن يكون لها خالق أزلي، ويقول لك دليل العناية إن هذه المخلوقات منسقة بحيث تؤدي إلى غايات لا يمكن أن تكون قد جاءت بالمصادفة. فالشمس تسطع على البحر فيرتفع منه بخار يتحول إلى ماء تسوقه رياح ينزل على أرض خصيبة تنبت نباتاً يأكله بشر وتأكله حيوانات يكون بعضها غذاء لبعض. المنكرون لوجود الخالق من أمثال بعض الدارونيين يعترفون بهذا لكنهم يصرون على انه جاء مصادفة ولم يأت عن تدبير. ويغلو بعضهم في هذا إلى درجة سخيفة. من ذلك أن عالم دين نصراني اسمه (بالـي) كـان قد كتـب كتـاباً نقـد فيـه فـكرة المصـادفة وقال: إن وجود هذا التصميم في الكون بالمصادفة كساعة يصنعها صانع أعمى. فكتب رجل من أكبر دعاة الإلحاد الدارويني في أيامنا كتاباً أسماه (صانع الساعات الأعمى) يدافع فيه عن فكرة المصـادفة ويـزعم فيـه أنـه وإن كـان الكـون مصمماً كالساعة فإن تصميمه جاء بالمصادفة فهو كساعة صنعها صانع أعمى!
كتاب الله ـ تعالى ـ مليء بتوجيه الأنظار إلى هذا التصميم الذي يشهد لصانعه بالحكمة والإرادة بل والرحمة بعباده. في مثل هذا التذكير لا يلفت القرآن الكريم الأنظار إلى عجيب صنعه في المخلوق الواحد، وإنما يدعو إلى النظر في العلاقة بين عدة مخلوقات، وكيف أنها علاقة تؤدي إلى نتائج معينة هي في مصلحة الإنسان. من ذلك قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَّليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا

المعتقدات والمصالح


المعتقدات والمصالح


قـال صحـافي ومحـلل سياسي عربي كبير: إن السياسة الخارجية الأمريكية تقوم على المصالح وأنها لذلك لا تتـغير، وكـأنـه كان يعني أن أيديولوجيات الساسة الحكام لا تغير من هذه الحقيقة. كثيراً ما نسمع مثل هذا الكلام الذي يفرِّق أصحابه بين المعتقدات والمصالح، وكثيراً ما يقصـدون به التقـليل من قيـمة المعـتقدات. لكن الحقـيقة أن هـنالك صلة قوية بين الأمرين؛ فالمعتقدات والتصورات هـي العدسـات التي ينـظر الناس بها إلى الأمور فيقررون ما هو مصلحة للوطن وما ليس بمصلحة؛ فالشيء الواحد قد يبدو مصلحة بمنظار اعتقادي معين ويبدو مفسدة بمنظار آخر.
هل من مصلحة أمريكا أن تنحاز لإسرائيل وتعدها كأنها ولاية من ولاياتها التي لا قيام لها بنفسها والمحتاجة دائماً إلى مساعدة يتكلفها دافع الضرائب الأمريكي؟ إذا نظرت إلى الأمر من ناحية المصلحة المادية ــ كما يفعل بعض الأمريكان الآن ــ فإنك ستقول: إن هذا الموقف ليس من مصلحتها؛ بل إن مصلحتها في أن تصادق العرب الذين هم أكثر عدداً، وأعظم سوقاً، وأكثر موارد طبيعية. لكن سياسياً كبوش وإن سلم لك بذلك قد يقول ـ بناء على معتقده ـ: لكن أمريكا بلد نصراني ونحن نعيش في زمان أظـله ظهـور السـيد المسيح، ونحن نعلم أنه سيظهر في هـذه المنطقة؛ فمن مصلحتنا أن نهيئ الجو لظهوره. وهذا لا يكون إلا بالانحياز لإسرائيل حتى لو كان انحيازاً على حساب بعض المصالح المادية التي ذكرتها.
ولولا أن المعتقدات ذات تأثير كبير على نظرة الناس إلى المصالح لما تعددت الأحزاب والجماعات في البلد الواحد؛ فالإنجــلـيزي أو الأمـريـكي الذي مــا يزال يؤمن بالاشتراكية أو ببعض جوانبها يرى من مصلحة وطنه أن يتبنى سياسة تحدُّ من غلواء الرأسمالية، ويبني على ذلك تصوره لسياسات عملية تحـقـق هـذه الفكرة. أما أنصار الفـكر الرأسـمالي فيرَون أنه لا طريق غيره إلى نهضة اقتصادية يستفيد منها كل المواطنين مهما أدت إلى تفاوت شاسع في نصيبهم من الثروة.
ولأن كثيراً من الناس يتصورون المصلحة تصوراً يجعلها مستقلة عن المعتقدات؛ فإنهم يفترضون أن ما يسمى بالمصلحة الوطنية هو شيء واحد يشترك في رؤيته كل المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم. فكما أن اختلافاتهم الاعتقادية لا تجعلهم يختلفون في رؤيتهم للشمس والقمر والجبال والأشجار؛ فكذلك لا تمنعهم من الاتفاق على ما هو مصلحة للوطن.
مما لا شك فيه أن هنالك مصالح ظاهرة قد يراها كل الناس رؤية واحدة بغض النظر عن معتقداتهم؛ فكل الناس يتفقون الآن فيـما يـبدو على أنه، إن صح قول العلماء بأن ما تنفثه المصانع والسيارات من غازات قد أثَّر على طبقة الأوزون، وأن هذا قد أدى إلى زيادة في درجات الحرارة العالمية، وأن هذا الأمر إن لم يُتدارَك فسيؤدي إلى ذوبان الجليد، ومن ثم إلى زيادة مياه البحار وما ينتج عن هذا من فيضانات ستغرف بسببها بلاد كثيرة.. أقول: إن هذا أمر قد يتفق الناس على كونه ضاراً إن حدث.
أقول (قد) لأن مؤلفًا أمريكياً(1) يقول: إن من يسميهم بغلاة النصارى، الذين يمثلون ما يقارب الأربعين بالمئة من أنصار بوش، يرون في كوارث مثل: تسونامي، وارتفاع درجات الحرارة، ومشكلات الطاقة والديون الأمريكية، والنزاع بين العرب وإسرائيل، وغزو العراق، يقول: إنهم يرون في كل هذا مبشرات بقرب مجيء المسيح. فهي إذن ليست بالشيء الذي يسوؤهم أو الذي يحاولون تغييره.
لكن ما كل ما يُعَدُّ مصلحة أو مفسدة هو من هذا النوع الذي قد تراه كل النظرات الأيديولوجية رؤية واحدة.
ما النظام الاقتـصادي المناسب للبلد؟ ما نوع التعليم المفيد لأبنـائنـا؟ ما الأقطار التي يجب أن نحسن علاقاتنا بها؟ إلى أيِّ مدى تتاح حرية التعبير، وحرية الحركة، وحرية الاعتقاد، وحرية التنظيامات والاجتماعات، وحرية العلاقات الجنسية، وحرية التجارة؟ هذه وأمثالها من الأمور التي لا يتوقع اتفاق كل المواطنين عليها إذا كانت بينهم اختلافات أصولية دينية أو مذهبية أو فلسفية؛ إذا كان بعضهم مسلمين وبعضهم نصارى وبعضهم علمانيين؛ بل حتى إذا كان بعضهم شيعة وبعضهم سنة. إنه ليس في الانتماء إلى الوطن أيّاً كان نوعه، وليس في الإخلاص له مهما كان قدره، ما يحتم على المواطنين إجابة معينة عن تلك الأسئلة، بل إن أجوبتهم عليها لا بد أن تتأثر بمعتقداتهم وتصوراتهم.
إن المواطَنَة ليست مجرد انتماء شكلي إلى أرض يحدها من الشمال كذا ومن الجنوب كذا ومن الشرق كذا ومن الغرب كذا. هذا انتماء حيواني يستوي فيه البشر والبقر والوطن والزريبة. إن المواطنين بشر لا بقر؛ بشر لهم قيمهم وتصوراتهم ومعتقداتهم، واهتماماتهم التي تتجاوز حدود الحاجات المادية. والوطن ليس زريبة؛ وإنما هو مأوى قومٍ حَدَثَ بينهم قدرٌ كبير من التجانس في القيم حتى صار من الممكن وصفهم في الجملة بخصائص معينة تميزهم عن غيرهم.
غير ذلك كان يقال لنا إلى زمان قريب، وكان يظن كثير منا بسببه في سذاجة أن الديمقراطية تسوي بين المواطنين بغض النظر عن أعراقهم وألوانـهم ومعـتقداتـهم وقيـمهم، بل تعدهم جميعاً مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وتحل مشكلة اختلافاتهم في المعتقدات والقيم والفلسفات بصناديق الاقتراع. لكننا نرى اليوم كيف أن الغرب يضيق بالمواطنين المسلمين مع أنهم قلة، وكيف أنهم صاروا يطالبونهم بأن يجعلوا إسلامهم إسلاماً فرنسياً أو إنجليزياً أو أمريكياً، وكيف بدؤوا يتحدثون عن قيمهم الغربية وبعتزون بها ويدافعون عنها ويدَّعون تفوقها على القيم الإسلامية، ويطلبون ممن لا يشاركهم فيها ألاّ يشاركهم في الوطن الذي يعدونه في أساسه وطناً لأصحاب تلك القيم. والذين يعرفون الديمقراطية يعرفون أن هذا ليس بالشيء الجديد عليها، بل كانت كذلك منذ نشأتها في أثينا، ومنذ أن عادت إلى أوروبا وأمريكا. إنها لم تكن أبداً ديمقراطية لكل الناس مهما كانت الخلافات بينهم؛ إنها اليوم ديمقراطية علمانية ليبرالية لا مكان فيها لمن لا يلتزم بهذه القيم. سيقول الذين لا يعلمون: كيف وهم لا يمنعون أحداً من دخول مجالسهم التشريعية حتى لو كان مسلماً؛ كما نرى اليوم في بريطانيا والولايات المتحدة؟ نعم، إنهم يفتحون الباب لكل أحد ولكن بشرط أن يكون ملتزماً بتلك القيم السياسية. ولكن حتى هذا لن يدوم طويلاً إذا ما بدأ المسلمون يكثرون ويزداد تأثيرهم . لقد كانوا إلى وقت قريب يتحدثون عن المجتمع المتعدد الثقافات؛ أما اليوم فقد كثر الحديث عن ضرورة التجانس والتلاحم، ويعنون به التلاحم الثقافي. وصاروا يأخذون بسبب ذلك على المسلمين لِكون دينهم يمنعهم من مثل هذا الذوبان في مجتمع غير مسلم، ويجعلهم يعيشون في عزلة اختيارية عنه.
نعم، إن الوطن يكون أكثر استقراراً، وأكثر قدرة على التطور وعلى الدفاع عن نفسه كلما كان أكثر تلاحماً وكلما قلت الخلافات الأصولية بين مواطنيه، لكن ما كل اتفاق على مبدأ أو ثقافة ـ أيّاً كانت ـ هو مما ينتج هذا التلاحم. بل إن بعض المعتقدات والثقافات من شأنها أن تحدث هي نفسها عداوة بين المنتمين إليها.
ونعم إن الاتفاق على معتقد معين حتى لو كان عبادة للأوثان ينتج ما يسميه القرآن الكريم مودة بين المعتقدين، وقد يدعوهم لأنْ يتحدوا في مواجهة ما يعدونه خطراً عليهم أجمعين.
بيـد أن الـذي يُحـدِثُ التلاحمَ الحقيقي بين الناس ويجـعـل منـهم إخـوة متـحابـين هــو المعـتـقد الحـق الـذي لا تنـاقض فـيه. أما المعتـقدات الباطلة المـتناقضة فمن شأنها أن تفرق هي نفسها بين المنتمين إليها، حتى إنك لتحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى. ولذلك قال أحد السلف (أهو مجاهد؟) مفسراً كثرة الانشقاقات بين الخوارج: «لقد كـان أمـر الخـوارج باطـلاً فاخـتلف، ولو كان حقاً لأْتَلَف» أو كما قال.
نحن لا ندعو إلى ما يدعو إليه الغربيون من إجبار كل الناس على الالتزام بالقيم السائدة في المجتمع؛ فقد تسامحت مجتمعاتنا الإسلامية كلها مع اليهود والنصارى وسمحت لهم أن يعيشوا بين ظهراني المسلمين. إن المهم لاستقرار المجتمع أن تكون هنالك ثقافة غالبة تبنى عليها السياسات الاقتصادية والسياسية والتربوية التعليمية والخارجية وغيرها.
ولذا فإن علينا أن نرفض رفضاً باتاً ما يدعونا إليه الغربيون (مما يفعلون عكسه في بلادهم) من جعل مجتمعاتنا ممزقة بين معتقدات دينية وعلمانية متناقضة متحـاربة، لا يكون معها استقرار ولا تطور، بل تظل نهباً لكل طامع.

تصور إسلامي للتعايش السلمي


تصور إسلامي للتعايش السلمي


لا إكراه
التعايش السلمي مع الأديان غير الإسلامية مبدأ إسلامي أصيل دلت عليه النصوص، وطبقه المسلمون طوال تاريخهم. فهو إذن ليس أمرا يفرضه المسلمون على دينهم أو يلجؤون إليه لأسباب خارجية قاهرة.
إنه مبدأ قائم على الحقائق والمبادئ الإسلامية التالية:
·        إن الإسلام هو رسالة الله الخاتمة إلى عباده التي بلغها خاتم أنبيائه الذي جعله ربه رحمة للعالمين. إنه لا يعقل أن يأمر دين هذه طبيعته أن يشن المؤمنون به حربا على بقية العالم لإكراه الناس على الدخول فيه.
·        لقد أخبر الله تعالى رسوله بأنه ما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، فكيف يأمره في الوقت نفسه بأن يكرههم على الدخول فيه؟ هل يأمره بأن يخلي الأرض من كل أحد غير مسلم؟
·        ليس هذا فحسب بل إن الرسول يخبرنا أنه لن تخلو الأرض من أناس غير مسلمين، بل إن غير المسلمين هؤلاء سيكونون هم سكان العالم الذين يشهدون نهايته وقيام الساعة بعد أن يموت كل المسلمين.
·        يخبرنا الله سبحانه بأنه لا أحد غيره يملك السيطرة على قلوب الناس وعقولهم. فالأنبياء لا يستطيعون هداية الناس بمعنى إدخال الهدى في قلوبهم. إن الله تعالى هو وحده الذي يهدي بهذا المعنى. إن الرسل والدعاة من بعدهم إنما يهدون الناس هداية بيان وبلاغ، ثم يتركون لهم الخيار.
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (88: 21 -  22)
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( يونس: 99)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) 
·        وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع إدخال الهدى في قلوب الناس فإن الشيطان أيضا لا يستطيع إدخال الضلال فيها. إن مقدرته محصورة في الدعوة إلى الضلال وتزيينه. لكن الله تعالى تكفل لنا بأن هذا العمل الشيطاني لا يكون له تأثير إلا على الذين يستجيبون للشيطان بإرادتهم، ووعد سبحانه بأن يهدي إلى الحق كل من علم في قلبه إرادة له.
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ( الحجر:42 )
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُْبِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( إبراهيم:22)
·        ولأن الدين هكذا في أصله مسألة قلبية، فهو بالضرورة أمر إرادي، إنه أمر يعترف به الإنسان ويطبقه بإرادته. فلا أحد إذن يمكن أن يجبره عليه.
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر (18 : 29 )
·        وعليه فإن الآية القرآنية الكريمة الشهيرة     
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغي (2: 256)
 ليست كما قد يظن البعض خطأ آية منعزلة أو الآية الوحيدة التي تقرر هذه الحقيقة. بل إنها متسقة مع غيرها من الآيات التي ذكرنا بعضها في أنه لا يمكن إكراه أحد على الدين. لكن في الآية أمرا زائدا وهي أنها تأمر المؤمنين بأن لا يحاولوا هذا الأمر المستحيل.
 لكن الأمر بعدم الإكراه ليس مبنيا في الإسلام على أنه من حق كل إنسان أو من مصلحته أن يختار ما شاء من عقائد كما تقول اللبرالية، لأنه من المؤكد أن بعض المعتقدات مبنية على أباطيل فلا يمكن لذلك أن تكون في مصلحة معتقدها أو مصلحة المجتمع الذي تشيع فيه. فالإسلام لا يأمر بعدم إكراه الناس على الدخول فيه لأنه يقر معتقداتهم المخالفة له؛ إنه لا يقرها.
 لكن الإسلام يفرق في المعاملة بين المعتقدات والمعتقدين. فبينما يدعو إلى دعوة المعتقدين بالتي هي أحسن، بل وإلى برمن لم يعتد منهم، فإنه لا يتردد في نقد معتقداتهم نقدا صارما وإقامة الحجج على بطلانها.  أنظر مثلا كيف يدعو إلى معاملة النصارى بالتي هي أحسن، ويحكم بحل طعامهم ونسائهم، بينما يؤكد أنه لا عيسى بن مريم ولا غيره يمكن أن يكون ولدا لله تعالى لأنهم مخلوقون والمخلوق لا يكون ولدا لخالقه؛ إن الأب يلد ابنه ولا يخلقه.
إن الهدف من معاملة غير المسلمين معاملة حسنة وعدم إكراههم على الدخول في الإسلام إنما هو لأن هذه هي أفضل وسيلة لبيان الحق لهم وتسهيل رؤيتهم وقبولهم له. ولهذا فإن التأكيد في الإسلام إنما هو دائما على الدعوة وبيان أهميتها، وبيان أحسن طرقها، وبيان أنها هي الوظيفة الأساس لرسل الله ولكل الدعاة من بعدهم، وهكذا.
ولذلك فإن الله تعالى يذكر رسوله دائما بأن مهمته إنما هي البلاغ، وأنه إنما هو مذكر، وأنه لا يستطيع هداية من يحب هدايته، وأنه لا يستطيع إكراه الناس على قبول الحق، وأنه يجب أن يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة. والمسلمون مأمورون بأن لا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم.
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (42 :  48)
 ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (16 : 125)
 تاريخ من التسامح
 لم يكن ذلك الهدي عبرت عنه آيات القرآن الكريم في معاملة الأديان الأخرى وأهلها من قبيل المثاليات المعلقة في الهواء، وإنما كانت توجيهات عملية ترجمها المسلمون إلى واقع أرضي في تاريخهم الطويل. وكان واقعا اعترف به وأعجب به الكثيرون من غير المسلمين وما زالوا يعترفون به ويعجبون. وهذه بعض شهاداتهم الحديثة.
عندما ألقى البابا الحالي محاضرته المشهورة في إحدى الجامعات الألمانية واستدل فيها بكلام للامبراطور مانيويل الثاني اتهم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أمر المسلمين بأن ينشروا دينهم بالسيف، كان من أحسن الردود عليه ما كتبه كتاب غير مسلمين.
كان من هؤلاء يوري أفنيرى الذي وصف نفسه بأنه يهودي ملحد. قال يوري[1]:
قال المسيح: "ستعرفونهم بثمراتهم". إن معاملة الإسلام للأديان الأخرى يجب أن يحكم عليها بمعيار بسيط: كيف تصرف الحكام المسلمون لمدة ألف عام عندما كانوا قادرين على "نشر الإسلام بالسيف"
إنهم لم يفعلوا أبدا.
ثم يقول للبابا إن المسلمين حكموا اليونان لمدة قرون، لكنهم لم يكرهوا يونانيا واحدا أبدا على الدخول في الإسلام. وبالطريقة نفسها كانت معاملتهم للبلغار والصرب والرومان والهنغار وشعوب أوربية أخرى. ويقول له إنه
عندما احتل الصليبيون القدس في عام 1099 وذبحوا من غير تمييز سكانها من المسلمين واليهود،  كان النصارى ما يزالون بعد أربعمئة عام من احتلال المسلمين لفلسطين هم الأغلبية في القطر لأنه لم يبذل أي جهد في هذه المدة الطويلة لفرض الإسلام عليهم. وليس هنالك من دليل على أنه كانت هنالك محاولة لفرض الإسلام على اليهود. وكما هو معروف فإن اليهود في اسبانيا استمتعوا بازدهار لم يستمتعوا به في أي مكان آخر حتى أيامنا هذه تقريبا. إن كل يهودي يعرف تاريخ قومه لا يملك إلا أن يشعر بالعرفان العميق للإسلام الذي حمى اليهود لمدة خمسين جيلا، بينما كان العالم المسيحي يضطهد اليهود وحاول مرات عديدة أن يجبرهم "بالسيف" على التخلي عن دينهم.
إن قصة " انتشار العقيدة بالسيف" أسطورة شريرة، إنها واحدة من الخرافات التي ترعرعت في أوربا إبان الحروب العظمى على المسلمين.
 ذلك ما قاله الكاتب اليهودي، وأما المؤرخة البريطانية كيرن آرمسترونج فتقول موافقة له على انتشار هذه الأسطورة في الغرب:
إنه وبطريقة منتظمة ومزعجة، فإن اعتقاد القرون الوسطى هذا يظهر كلما كانت هنالك مشكلة في الشرق الأوسط. ولكن حتى القرن العشرين كان الإسلام دينا أكثر تسامحا وسلاما من المسيحية. إن القرآن ينهى بشدة عن أي إكراه في الدين، ويعد كل الأديان التي على الهدى أديانا من عند الله. وبالرغم من الاعتقاد الغربي المخالف فإن المسلمين لم يفرضوا دينهم بالسيف. لكن خرافة أن الإسلام دين عنيف في أصله تستمر، وتظهر في اللحظات غير المناسبة أبدا. إنه من الأفكار الغربية المتوارثة التي يكاد يكون من المستحيل اقتلاعها.[2]
إن كون الإسلام انتشر بطرق سلمية أمر اعترف به وأكده منذ زمن طويل النصراني السير ثوماس آرنولد في كتابه الشهير: الدعوة إلى الإسلام. قال آرنولد:
لم نسمع شيئا عن أي محاولة منظمة لإكراه السكان غير المسلمين على قبول الإسلام، أو لأي اضطهاد الغرض منه القضاء على الدين المسيحي. لو أن الخلفاء اختاروا أن يتبنوا أيا من هذين الطريقين ربما كانوا قد قضوا على النصرانية بالسهولة نفسها التي طرد بها فرديناند وإزابلا المسلمن من اسبانيا، أو التي جعل بها لويس الرابع عشر البروتستانية جريمة في فرنسا، أو التي نفي بها اليهود عن أوربا لمدة 350 عاما. لقد قطعت الصلة بين الكنائس الشرقية وبين بقية العالم المسيحي لمدة لم يستطع أحد خلالها أن يرفع إصبعا للدفاع عنهم. إن بقاء هذه الكنائس إلى يومنا هذا لدليل قوي على التسامح الذي امتازت به على وجه العموم الحكومات المحمدية[3]
أقول ولهذا لم يكن هنالك من داع لقيام دولة علمانية في البلاد الإسلامية، لأن الدولة العلمانية إنما قامت في الغرب ــ كما يحدثنا المؤرخون الغربيون ــ بسبب الحروب الدينية الأوربية الشهيرة التي اندلعت لأن الحكام النصارى كانوا يحاولون إكراه كل من كان غير نصراني أو حتى غير منتم إلى فرقتهم على الدخول فيها. أما المسلمون فقد أعطوا المواطنين غير المسلمين الذين كانوا تحت سلطانهم كل الحقوق التي تعطيها لهم الحكومات العلمانية الحالية بل أكثر. نعم إنهم لم يعطوهم حقوقا وفرصا مساوية لتلك التي أعطيت للمسلمين. إن مثل هذه المساواة أمر لا يمكن أن يتحقق في اي دولة دينية كانت أم علمانية. إن الحكومات العلمانية إنما تعطي مواطنيها المتدينين فرصا لشغل المناصب السياسية بشرط ولائهم للدستور الذي يفصل بين الدولة والدين. بل إن بعض الكتاب المتدينين من الأمريكان يتذمرون من أن الحرية التي تعطيها الدولة العلمانية للدين إنما هي بحسب تعريفها هي للدين. ولو كانت حرية حقيقية لأعطي أصحاب كل دين من الحرية ما يتطلبه دينهم هم لا ما تمن به العلمانية بحسب مفهومها للدين.  
 لكن هذا الذي يشكون منه هو أمر لا يمكن أن تكون الدولة علمانية إلا به. إنه لا يتصور أن تعطي الدولة العلمانية أصحاب دين ما حرية ممارسة دينهم بطريقة تفضي إلى تعديه على حدود الدولة العلمانية.
كانت هنالك حروب إسلامية إذن؟
كانت لأسباب لم يكن منها أبدا إكراه أحد على اعتناق الإسلام كما بينا. كانت لأسباب أهمها   محاربة الظلم. إننا نعيش في عالم لا بد أن يحارب فيه بعض الظالمين ليعيش الآخرون في أمن وسلام.
والظلم الذي دعا الإسلام لمحاربته يأخذ أشكالا كثيرة منها:
اضطهاد الحكومات لمواطنيها الذين يعتنقون الإسلام.
أو إخراجهم من وطنهم.
أوشن الحروب على أهل البلاد التي تعتنق الإسلام.
أوشن الحروب عليهم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين بغرض احتلال بلادهم ونهب ثرواتهم، أو استرقاقهم.  

الحاجة إلى التعايش السلمي في عصرنا
إننا نعيش في زمان وجد فيه الناس أنفسهم مضطرين لأن يعيشوا متجاورين في قرية عالمية واحدة تتداخل فيها مصالحهم رغم اختلافاتهم العرقية والدينية واللونية والثقافية. لكنها قرية مليئة بالاسلحة التي تسمى بالتقليدية والتي يمكن أن تلحق أضرارا بالغة بكل ما هو ضروري لحياة الناس، وبالأسلحة تسمى بأسلحة الدمار الشامل التي تملك الولايات المتحدة وحدها منها ما يمكن أن يمحو كل سكان الكرة الأرضية كما يقولون! إنه لمن الواضح إذن أنه لا خيار لسكان الكرة الأرضية   لتفادي تلك الكارثة إلا أن يقرروا أن يتعايشوا في سلام. لكن مجرد الرغبة في ذلك التعايش لا تكفي. إنه لا بد من التخاذ الخطوات اللازمة لجعل ذلك التعايش ممكنا. ولعل من أهم مقتضيات ذلك التعايش
1.      وجود مؤسسات عالمية تضمن السلام، وتلتزم بالقيم الخلقية لا يمكن لها أن تؤدي وظيفتها إلا بها.لا بد لهذه المؤسسات من أن تقوم على العدل.
2.     وعلى الدول الكبرى أن تدرك أن هذا العدل هو في النهاية خير لشعوبها مما قد يبدو لها من مصالح وطنية وقتية ضيقة. إن على الدولة التي تستخدم قوتها الاقتصادية أو العسكرية لإخضاع دولة ضعيفة بحجة أنها إنما تدافع بذلك عن مصلحتها الوطنية أن تدرك أنه خلقيا لا فرق بين منطقها هذا ومنطق إنسان ينهب ممتلكات آخر بحجة أنه يريد تحسين مستواه المعيشي.
3.     وعليه فإنه لا يمكن لمؤسسات عالمية مثل الأمم المتحدة أن تؤدي مهمتها إذا ما صارت أداة في يد دولة كبرى كالولايات المتحدة. ولكن هذا مع الأسف الشديد هو الحاصل الآن. وحصوله ليس ادعاء تدعيه الدول الضعيفة وإنما هو أمر تعترف به الدول الكبرى نفسها، بل تتباهي به:
إن التصور الغالب بين النخبة للأمم المتحدة ـ كما عبر عنه بوضوح في عام 1992 فرانسيس فوكوياما الذي عمل في وزارة الخارجية الريغانية البوشوية هو أن الأمم المتحدة مستخدمة كأداة فعالة لسياسة امريكا الانفرادية، والتي قد تكون في المستقبل هي الآلية الأساس لتلك السياسة.[4]
 لكن هذا معناه أنه عندما تهدد الولايات المتحدة أو تعاقب قطرا ما بحجة عدم تنفيذه لقرارات الأمم المتحدة إنما تهدده في الحقيقة لأنه لم ينفذ أوامرها هي.
4.     إن الالتزام بالمبادئ الخلقية السامية ولا سيما مبدأ العدالة هو في النهاية الضمان الوحيد لعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل. إن الدول الأضعف لن تشعر بالحاجة إلى مثل هذه الأسلحة إذا ما تأكدت بأنه لن يكون في عدم امتلاكها لها خطر على وجودها أو على سيادتها. سيرون أنه من الأعقل لهم أن ينفقوا القليل الذي يمتلكونه على أشياء أكثر أهمية وإلحاحا. وأما إذا ما تأكدوا بأنهم سيهانون بسبب عدم امتلاكهم لها فإنهم قد لا يترددون في السعي للحصول على أي نوع وأي كم منها مهما كان الثمن وبغض النظر عن أية معاهدات يضطرون للتوقيع عليها.
5.     إن على أولئك الذين يتحركون بدافع السيطرة على الآخرين أن يتذكروا بأن هنالك دافعا أقوى، دافع العزة. إن في العالم أناسا كثيرين مستعدون لأن يبذلوا أرواحهم لحماية عزة شعوبهم والمحافظة عليها.
6.     إن على الذين يمتلكون الأسلحة أن يكفوا عن استعمالها بغير حق لا بدافع تلك المبادئ الخلقية التي ذكرناها فحسب، ولكن لأن ذلك في مصلحتهم. وذلك أن التطور الهائل في صناعة الأسلحة قد يؤدي قريبا إلى اختراع نوع منها صغير الحجم خفيف الوزن شديد الفاعلية يسهل على الأفراد والجماعات الصغيرة أن تحصل عليه.
7.     إن بعض الناس قد يرون أنه أن تفرض عليهم معتقدات وقيم مناوئة لمعتقداتهم وقيمهم أشد خطرا عليهم وأكثر إهانة لهم من حرمانهم بغير حق من بعض خيرات بلادهم. وعليه فإن الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية يجب أن لا تتحول إلى منابر للدول الكبرى تفرض بها قيمها، ولا سيما العلمانية منها على آخرين يكرهونها. إن أعضاء الأمم المتحدة لا ينتمون فقط إلى دول مختلفة وإنما ينتمون أيضا إلى ثقافات مختلفة في عقائدهم وقيمهم وتقاليدهم وتاريخهم. إنه لكي يعيش كل هؤلاء تحت مظلة واحدة ليتعاونوا على مواجهة المشكلات التي تواجههم باعتبارهم سكان كرة أرضية واحدة، تجعل من الضروري عليهم أن يعترفوا بهذه الفروق والاختلافات وأن يتسامحوا في العيش معها، وأن لا يلجؤوا لذلك إلي غير الوسائل السلمية لحلها. إن التغيرات الثقافية سواء كانت إلى الأحسن أو الأسوأ إنما تحدث تدريجيا وسلميا. فاستعمال هيئة عالمية مهمة كالأمم المتحدة لفرض مثل هذه التغيرات على الناس لن يشجع إلا على عدم احترام هذه المؤسسة، وعدم الاكتراث لقراراتها. لكن هذا مع الأسف هو الذي يؤمن به كثير من الناس في الغرب. إنهم يريدون لكل الناس أن يكون نظامهم السياسي مثل نظامهم، وأن يفهموا دينهم بالطريقة نفسها التي يفهمون هم بها دينهم، وأن تكون علاقاتهم بين الجنسين مثل علاقاتهم، وأن لا يتصرفوا بطريقة تراها دولة كالولايات المتحدة غير خادمة لمصالحها.

الإنصاف في معاملة غير المسلمين


الإنصاف في معاملة غير المسلمين




أصبح من بدهيات عصرنا أننا نعيش اليوم في عالم تشابكت فيه مصالح الأمم ؛ فلم يعد من الممكن لواحدة منها بلغت من القوة ما بلغت أن تنعزل مستقلة عن غيرها مستغنية بنفسها . فنحن إذن محتاجون إلى معالم نهتدي بها في تعاملنا مع غيرنا معاملة نحقق بها مصالحنا ولا نساوم بها على ديننا . أول معلم يهدينا إليه كتاب ربنا هو أن معاملتنا لغيرنا يجب أن تؤسس على الحقائق ، حقائق الدين المتلوة ، وحقائق الواقع المشهودة . من أمثلة الحقائق الواقعية التي يخبرنا بها ربنا ويأمرنا أن نبني عليها تعاملنا قوله - تعالى - : ] إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُواًّ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [ ( فاطر : 6 ) . أي إنه إذا كان الشيطان عدواً فيجب أن تكون معاملتك له مبنية على هذه الحقائق ، لا على أمور عنه تتوهمها . والحقائق الواقعية يمكن أن يدركها البشر إدراكاً مباشراً ، كما
يمكن أن يعرفوها بخبر الله - تعالى - في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . وأخبار الله - تعالى - صادقة ، والخبر الصادق هو المطابق للواقع ، وإلا فهو كاذب . فما الحقائق المشهودة التي يخبرنا بها ربنا أو نشاهدها بأنفسنا عن غير المسلمين ممن يساكنوننا هذه الأرض في عصرنا هذا ؟ أول ما نتعلمه من ديننا ويؤكده لنا واقعنا أنهم وإن كانوا جميعاً غير مسلمين لكنهم ليسوا سواء في قربهم وبعدهم من حقائق الدين ، وليسوا سواء في معاملتهم للمسلمين . وإذا كانت هذه حقيقة فيجب أن لا نغفلها في تعاملنا معهم . يجب أن نعامل كل فرد أو جماعة منهم بحسب ما نعرفه من حالهم . وهذا ليس إنصافاً لهم فحسب لكنه أمر ضروري لتحصيل كثير من المصالح ودفع كثير من المفاسد . لكننا كثيراً ما نجنح إلى التعميم حيث يكون التمييز هو الأنسب ، وكثيراً ما نذكر آيات تدل على هذا العموم ونغفل الآيات التي تخصصه أو تقيده .
من القريب منا ومن البعيد من اليهود والنصارى وسائر المشركين ؟ سيسارع بعضنا إلى تذكيرنا بمثل قول الله تعالى : ] وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [ ( البقرة : 120 ) . ويريد أن يستدل بهذا على أن ما قال ربنا سبحانه ينطبق على كل فرد فرد منهم ، وأن معاملتنا لهم يجب إذن أن تكون كلها مرتكزة على هذه الحقيقة ، لكن كتاب ربنا نفسه يدلنا على خطأ هذا الفهم . إن صيغة الآية صيغة عموم ما في ذلك شك ، لكنها مخصوصة بآيات أخرى ، وبواقع نشاهده . فكتاب ربنا يخبرنا ان بعض النصارى يسلمون . ] وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ [ ( المائدة : 83 ) .
فهؤلاء نصارى لكنهم لم يكونوا من النوع الذي لا يرضى عنا إلا إذا اتبعنا ملته ، بل اعترف بأن ملتنا هي الحق ، وهداه ربه إلى قبول هذا الحق . وما أخبرنا به ربنا في القرآن الكريم ما نزال نشاهده في أفراد من النصارى يسلمون ويبكون حين يسلمون . وما يقال عن النصارى يقال أيضاً عن اليهود ، فإن منهم أيضاً من هداه الله تعالى إلى الإسلام من أمثال الصحابي الجليل عبد الله بن سلام الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة . وما يقال عن تلك الآية يقال أيضاً عن آيات أخرى عمومها الظاهري
مخصوص . من ذلك قوله - تعالى - : ] وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [ ( التوبة : 30 ) .
كنت أفهم هذه الآية الكريمة على عمومها الظاهري هذا ، فكتبت كتيباً باللغة الإنجليزية منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً استدللت فيه بها على أن اليهود يؤلهون عزيراً كما النصارى يؤلهون عيسى . فعجبت عندما أخبرني الإخوة الناشرون بأنه جاءتهم احتجاجات من بعض اليهود على ما نسبته إليهم ، وطالبوني بالدليل . ولم يكن لدي من دليل غير القرآن الكريم . لكن أحد إخواننا السودانيين الدكتور إبراهيم الحاردلو ممن درسوا العبرية وتاريخ اليهودية ، أخبرني أن أستاذه اليهودي نفسه كان قد استغرب مما ذكره القرآن الكريم ، لكنه ذهب وراجع كتب تاريخهم ، ثم جاء ليقول للأخ إنه كان بالفعل هنالك جماعة من اليهود في المدينة في ذلك الوقت
يؤمنون بأن عزيراً ابن الله . وعندما راجعت كتب التفسير وجدت ما فيها مطابقاً لما قال ، فابن كثير مثلاً يقول بعدما ذكر عن السدي قصة طويلة عن عزير : ( فقال بعض جهلتهم إنما صنع ذلك لأنه ابن الله ) . ويقول صاحب التحرير والتنوير : (والذين وصفوه بذلك جماعة من أحبار اليهود في المدينة وتبعهم كثير من عامتهم ) ، كل هذا يدلك على أنه من الخطأ أن تفهم الآية الكريمة على عمومها الظاهري فيظن أنها تنطبق على كل فرد ينتسب إلى اليهودية ؛ لأن من اليهود المحدثين من لا يعلم أن بعضاً من سلفه كان يقول هذا . فكيف ينسب إليه قولهم ؟ وقد أعجبني في هذا الصدد إنصاف شيخ الإسلام ابن تيمية حين فرق بين من حرف ومن لم يحرف من
أهل الكتاب فقال : ( وعلى هذا فإذا كان بعض أهل الكتاب قد حرفوا بعض الكتاب ، وفيهم آخرون لم يعلموا ذلك فهم مجتهدون في اتباع ما جاء به الرسول ، لم يجب أن يجعل هؤلاء من المستوجبين للوعيد ) [1] . بل إن في واقعنا اليوم ما هو أغرب من هذا ، فهنالك اليوم آلاف مؤلفة ممن ينتسبون إلى النصرانية في أمريكا لكنهم لا يؤمنون بأن عيسى ابن الله !
أسوق كل هذا لأقول إننا يجب أن نعامل الناس بحسب الحقائق التي نعرفها عنهم ، ولا نلزمهم باعتقاد ينكرونه مستدلين على ذلك بالقرآن الكريم . كيف أفعل مع إنسان يزعم أنه نصراني لكنه يصرح بأنه لا يعتقد بأن المسيح ابن الله ؟ هل أقول له ما دمت نصرانياً فلا بد أن تؤمن بأنه ابن الله ؛ لأنه هكذا أخبرنا كتاب ربنا ؟ في مقابل هذا إذا وجدت من يزعم أنه يهودي أو نصراني لكنه لا يؤمن بضرورة الذبح مثلاً فلن آكل طعامه ؛ لأن طعامه إنما أحل لنا بسبب أنهم يذبحون . أما الذي نعلم أنه لا يذبح فطعامه حرام حتى لو كان مسلماً ؛ فكيف إذا كان يهودياً أو نصرانياً ؟ وبمثل هذا السبب لم يعامل المسلمون نصارى بنى تغلب معاملة النصارى ؛ لأنهم
كما قال عنهم أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - : ( لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر ) [2] .
نعم إذا وجدت فرداً أو جماعة من اليهود أو النصارى يتصفون بمثل صفات اليهود والنصارى الذين قال الله - تعالى - عنهم إنهم لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم ، أو أنهم شديدو العدواة لنا ، فلن أصدق إنكارهم لهذا ؛ لأن هذه حالات قلبية يمكن أن يكونوا فيها كاذبين . بل لا بد أن يكونوا كاذبين إذا كان حالهم الظاهري يشبه حال الذين تحدث عنهم القرآن الكريم . إذا أردنا أن نعامل غيرنا معاملة منصفة ، والمعاملة المنصفة هي دائماً في مصلحتنا ، فلا بد لنا من معرفة مثل هذه الحقائق وتذكرها والالتزام بها في معاملتنا لهم ولا سيما في القضايا الكبيرة مثل قضية فلسطين . إن بعض اليهود وإن كانوا قلة هم معنا في عداوتهم للحركة الصهيونية ، بل وفي إنكارهم لقيام دولة إسرائيل ؛ فهل من الإنصاف لهم ، وهل من مصلحتنا أن نقول لهم إننا لا نفرق بين يهودي وصهيوني في حربهم لنا ؟ إن من الأمريكان ومن الأوروبيين من يهودهم ونصاراهم ومشركيهم من هم مع الحق الفلسطيني وضد الاعتداء الصهيوني ، وهم
لا يستخفون باعتقادهم هذا بل يستعلنون به كلاماً وكتابة ومواقف عملية ، أفليس من حقهم علينا أن نشكرهم على هذا ، بل ونكافئهم إن استطعنا ؟ ثم أليس من مصلحتنا أن تنشق صفوف المعتدين ويكثر عدد المنصفين ؟ كيف إذا سمع أمثال هؤلاء أن بعض المتدينين منا هم الذين لا يقدرون لهم هذا المعروف ، وهم الذين لا يميزون بين معتد ومنكر للاعتداء ومحايد لا هو معنا ولا ضدنا . أليس في هذا فتنة لهم ؟ ما هكذا كان يفعل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم . ألم يقل يوم بدر عن أسارى المشركين : ( لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له )
كان سيفعل هذا مكافأة له لأنه كما قال الحافظ ابن حجر : ( كان من أشد من قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم ومن معهم من المسلمين حين حصروهم في الشعب ) [3] .
إن الذي ينبغي أن نتذكره نحن المسلمين أن ديننا يخبرنا بأن كل إنسان يولد حين يولد على الفطرة ، وأن الشر الذي يتلبسه طارئ عليه . والشر الطارئ يختلف قوة وضعفاً من إنسان لإنسان . وقل أن تجد إنساناً فقد كل الخير الذي فطره الله عليه ، فعاد لا يرى المعروف إلا منكراً والمنكر إلا معروفاً . كلاَّ ؛ فعامة الناس فيهم شيء من نبض الفطرة ؛ ولذلك يسلم بعضهم حين تتبين له الحقيقة . ولذلك تجد فيهم الكريم والمنصف والشجاع في قول الحق . فعلينا أن نستثمر هذه الصفات الحسنة في الناس ونجازيهم عليها ؛ فذلك خير لنا ، وهو من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم .
________________________ 

ودُّوا لو تكفرون كما كفروا


ودُّوا لو تكفرون كما كفروا




يتساءل كثير من المسلمين اليوم عما إذا كانت الحرب الأمريكية الغربية على ما يسمونه بالإرهاب حرباً دينية ؟ الإجابة تعتمد فيما أرى على المقصود بالحرب الدينية . فإذا كان المعني بها أن الغرب يريد أن يحارب الإسلام باسم المسيحية أو أنه يريد نشر المسيحية ؛ فإن حربه ليست دينية ؛ لأن الواقع أن إيمان الغربيين بالمسيحية أو اليهودية صار أضعف بكثير مما كان عليه في الماضي ، بل إن
جمهرة كبيرة من قادتهم ومسؤوليهم لم تعد تؤمن بها ولا بأمثالها من الأديان . بَيْدَ أنهم وحتى الملحدين منهم لهم نوع من الانتماء إلى هاتين الديانتين باعتبارهما جزءاً من تاريخهم ومكوناً مهماً من مكونات حضارتهم التي يفاخرون بها ويعدونها خير حضارة عرفتها البشرية . وهذا هو الذي يعنيه بوش و بلير ومن دونهما حين يُصرِّحون بأنهم يدافعون عن منهج حياتهم ، أو حين يقولون إنهم يحاربون أعداء الحضارة . هذه الحضارة التي لا ترضى عن دين إلا إذا رضي هو بأن يقر في المكان الضيق الذي حددته له فلا يتعداه إلا إذا أقر بأن الله تعالى قد ترك الناس سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم في أي أمر يتعلق بحياتهم السياسية أو الاقتصادية أو
الاجتماعية ، بل ترك كل هذا للناس يقررون فيه ما شاؤوا ، ويغيرونه متى شاؤوا . الدين المرضي لديهم عنه هو دين لا يعترض على رأسمالية ولا ليبرالية ، ولا يستعمل يداً في أمر بمعروف أو نهي عن منكر . وقد رضيت الأديان كلها فيما يبدو بهذه الحدود التي خطتها لها العلمانية ، بل إنه لم يبق بعد سقوط الشيوعية منهج حياة منافس للمنهج الغربي الرأسمالي الليبرالي . الاستثناء الوحيد هو الإسلام كما كان قد صرح بذلك فوكوياما الذي عبر عن هذا الغرور الغربي تعبيراً واضحاً حين زعم أن التاريخ انتهى فيما يتعلق بمناهج الحياة ؛ فالناس كلهم سائرون نحو هذا النموذج الغربي الذي يراه النموذج الوحيد المناسب لعصرنا ، والذي يسمى لذلك بالحداثة . فالإسلام الذي ما يزال يؤمن كثير من أهله بأنه بديل أصلح للناس من النموذج الغربي لا بد أن يكون حركة رجعية
تعرقل تقدم البشرية ؛ فلا مناص من حربه وإيقافه عند حده . فإذا كان هذا هو المقصود بالحرب الدينية فإنها لحرب دينية ما في ذلك من شك . لكن السياسة عندهم مخادَعة . ومن المخادَعة أن لا يصرح قادة الدول الغربية إلا بعض أغبيائهم بأن خصمها هو الإسلام . فالإسلام دين سلام ومعايشة مع بقية الأديان ، والغالبية العظمى من المسلمين أناس طيبون مسالمون راضون بالرأسمالية
والليبرالية ، إلا شرذمة تسمى الوهابية . واختيار الوهابية أيضاً اختيار سياسي بارع لا بد أن من أوصوا به أناس مختصون في الدراسات الإسلامية وفي الشعوب الإسلامية . فما يسمى بالوهابية دعوة لها خصوم كثر في العالم الإسلامي سيخدعون فعلاً ويظنون أن الهجوم عليها ليس هجوماً على الإسلام وإنما هو هجوم على حركة ظلوا يعدونها خطراً عليهم لمحاربتها لما هم عليه من أنواع الشرك في العقيدة ، والبدع في العبادات ، ولما نسب إليها زوراً من أقوال مخالفة للإسلام . لكن الذي لا يدركه هؤلاء المخدوعون
أن ما يكرهه الغربيون فيما يسمونه بالوهابية ليس هو ما يكرهونه هم . إن ما يعنيه الغربيون وأذنابهم بالوهابية إنما هو إسلام الكتاب والسنة الذي يرسم للناس منهج حياة متكامل ويربيهم على الدعوة إليه وجهاد أعدائه ؛ ولذلك فإنهم لا يقصرون كلامهم عن الوهابية على السعودية وإنما يُدخلون فيه مصر وبلاداً إسلامية أخرى أي كل بلد فيه حركة إسلامية سنية رشيدة سواء كانت سياسية أو
غير سياسية ؛ لأنهم يرون أن مناخ الفكر السني هذا هو المناخ الذي يغرس فى نفوس المسلمين اعتزازاً بدينهم ووقوفاً صارماً ضد خصومهم .
قادة الحضارة الغربية يريدون منا معاشر المسلمين أن نلبي لهم ثلاثة مطالب :
أولها : أن تكون العلمانية منهج حياتنا كما هي منهج حياتهم ، وأن لا يحتل الإسلام إلا مكاناً ضيقاً في إطارها .
ثانياً : لكن هذه العلمانية يجب أن تكون ليبرالية ديمقراطية في السياسة ، رأسمالية حرة في الاقتصاد ، إباحية في القيم .
ثالثاً : أن تكون هذه العلمانية العربية أو « الإسلامية » خادمة لمصالح الدول الغربية ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية ؛ وذلك لأن الدولة قد تحقق ذينك الشرطين السابقين لكنها تكون مع ذلك دولة قوية مستقلة منافسة للدول الغربية .
فالذي تحرص عليه الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة هو أن لا يكون لها في مجال القوة المادية منافس تمكنه قوته من الاستقلال عنها في مراعاة مصالحه . ومن هنا فإنهم ينظرون بكثير من القلق إلى دول مثل الصين و اليابان ، ويعملون على أن لا تكون أي منهما منافساً للغرب . فالمطلب الثالث هذا هو أبو المطالب عندهم ، وما الآخران إلا وسائل إليه ، إن حققا غرضهما فبها ، وإلا ضحي بهما في سبيله . أعني أن الديمقراطية مثلاً مطلوبة شريطة أن لا تؤدي إلى موقف معاد ، أو منافس للولايات المتحدة . فإذا
كانت كذلك استبدل بها نظام دكتاتوري يحقق التبعية . وهم يسعون لتحقيق هذه الردة فينا أولاً بأن نتبع سبيلهم في الاستماع إلى
نصائح يسدونها إلينا في الطريقة التي نفهم بها ديننا ونفسره . تأتي هذه النصائح أحياناً منهم مباشرة ، ولكنها تأتي في كثير من الأحيان عن طريق عملائهم الفكريين المنافقين في بلادنا . لكنهم ينسون أن كتاب ربنا يحذرنا من الاستماع في أمر ديننا إلى قوم جاهلين به ، معادين له ، كافرين به . قال الإمام الطبري معلقاً على قوله تعالى : ] مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ [ ( البقرة : 105 ) . قال رحمه الله : « وفي هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين ، والاستماع من قولهم ، وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة لهم منهم ، باطلاعه جل ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد ، وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون » .
أما الوسيلة العملية الخطيرة الثانية فهي أن يطلب منا أن نغير مناهج دراساتنا الإسلامية لكي تتمشى مع تلك الفهوم التي يرونها مجافية للأصولية ، ومجاملة للعلمانية . لكن هذه وسيلة خاسرة . فإن خضعت بعض الدول فغيرت وبدلت وحرفت ؛ فما كل الدول بفاعلة ذلك . ولئن غاب الدين الصحيح من المدارس الرسمية فلن يغيب من صدور العلماء الدعاة الربانيين . لقد تكفل الله تعالى بحفظ
هذا الدين في صورة آيات تتلى ، وأحاديث تقرأ ، وفي صورة طائفة لا تزال على الحق ظاهرة لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون . لكن هذا الإيمان ينبغي أن لا يكون سبباً للتثاقل والغفلة ، بل يجب أن يكون دافعاً قوياً للسعي والحركة استبشاراً بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد . وإنه لمما يساعد على الاستبشار والرجاء أن نعلم أنه ما كل الغرب على قلب
رجل واحد في عدائه للإسلام ؛ ففيه مسلمون تتزايد أعدادهم صباح مساء ، وفيه منصفون متعاطفون مع المسلمين ، وفيه مرتابون في حضارتهم أو كافرون بها باحثون عن بديل لها . فعلينا أن لا نعادي الناس في الغرب كافة ما داموا لا يعادوننا كافة ، وأن نتذكر أن هذا من نعم الله علينا وإلا ] وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ [ ( النساء : 90 ) 

ماذا يعدون لمواجهة المد الإسلامي ؟




الدول الغربية ولا سيما الولايات المتحدة حريصة كل الحرص على أن يدوم لها تفوقها المادي ( الاقتصادي والعسكري ) وتفوقها الثقافي . وهي لا تكتفي لتحقيق هذا باتخاذ برامج داخلية تضمن لها استمرار التفوق ، لكنها تلجأ أيضاً إلى سياسات خارجية تحاول بها عرقلة تقدم أي بلد ترى فيه خطراً على تفوقها في هذين المجالين أو أحدهما . وإذا كانت ترى في الصين و اليابان أمارات لمثل هذا التقدم الذي قد يمثل خطراً على تفوقها الاقتصادي ؛ فإنها لا ترى شيئاً كهذا في البلاد الإسلامية ولا سيما العربية منها . إنهم يقولون إن الدخل القوي للبلاد العربية مجتمعة لا يساوي دخل أسبانيا . وقال أحدهم : إذا استثنينا البترول فإن صادرات هذه البلاد لنتساوي صادرات بلد أوروبي صغير كفنلندا . ولكن إذا كانوا يأمنون الآن جانب هذه البلاد من ناحية القوة المادية ، فإنهم لا يضمنون دوامه بغير تدخل منهم ، ولذلك تجدهم يخططون لاستمرار هذا التخلف بوسائل كثيرة ليست هي موضوع حديثنا في هذا المقال .
موضوعنا اليوم هو مخططاتهم لمواجهة الخطر الديني الإسلامي ؛ وذلك أنه بالرغم من تخلف البلاد الإسلامية اقتصادياً وعسكرياً ، فإن الدين الإسلامي هو الذي يمثل التحدي الأكبر للثقافة الغربية ولا سيما بعد سقوط الشيوعية . إن الدين الإسلامي هو باعترافهم الآن أكثر الأديان انتشاراً حتى في البلاد الغربية . بل أقول إنه أكثر انتشاراً لا بالنسبة للأديان فحسب بل بالنسبة لكل الأيديولوجيات وفلسفات الحياة الأخرى ، وليس في البلاد الغربية فحسب بل في سائر بلدان العالم . هذا بالنسبة لهم خطر كبير لا بد من إعداد الخطط للمكر به . إن تفاصيل مكرهم هذا أمر يطول وصفه ؛ لكننا سنركز حديثنا اليوم على تقرير لمركز البحوث الأمريكي
المسمى راند Rand والذي تنشر البيان ملخصاً له في هذا العدد [1] . لم أكتف بقراءة هذا الملخص بل اطلعت على التقرير كله في أصله الإنجليزي ، فخطرت ببالي خواطر كثيرة عنه ، منها :
أولاً : أن الخطط التي يوصي بها هي خطط ظل الغرب يتبعها منذ زمن ؛ فالدراسة لم تأت في رأيي بشيء جديد لكنها صرحت بما كان متبعاً وعبرت عنه تعبيراً مفصلاً . إن الإسلام الذي يراه الغرب خطراً عليه هو الإسلام الحق الذي يستمسك به بعض المسلمين بصدق وجد ويحاولون الدعوة إليه ، وهو الإسلام الذي يحبه ويؤمن به إذا عرفه كثير من الناس في الغرب ، إنه إسلام القرآن والسنة . ولذلك تجد أن أكثر من دخل في الإسلام في الولايات المتحدة على الأقل إنما دخلوا فيه بعد قراءتهم لترجمة من ترجمات هذا الكتاب العزيز .
ثانياً : ولأن التقرير كان صريحاً ؛ فإنه لا يحاول مخادعة المسلمين ، كما يفعل السياسيون من أمثال بوش أو بلير حين يقولون إن مشكلتنا ليست مع الإسلام ؛ فهو دين سلام ومحبة وتسامح ، وإنما هي مع أقلية من المنتسبين إليه من الإرهابيين أو المتطرفيين .
ثالثاً : واضح من الدراسة أن المسلمين مدعوون لا إلى فصل الدين عن الدولة كما هو الحال في الغرب ، ولكنهم مدعوون إلى فصل الإسلام وإبعاده عن الحياة كلها . والتقرير يعترف بأن هذا أمر صعب ، لكنه أمر لا مفر منه فيما يبدو . « إنه ليس بالأمر السهل » يقول التقرير : « أن تبدل ديناً عالمياً كبيراً كالإسلام . إنه إذا كان ( بناء الأمة ) عملاً مرعباً ، فإن ( بناء الدين ) أشد خطورة وتعقيداً » ومما يدلك على جدهم في محاولة التبديل هذه أن بهذا التقرير فصلاً كاملاً عن الحديث النبوي يقول فيه عن الحديث : « إنه في أحسن أحواله أمر مريب متناقض لا يمكن الاعتماد عليه في فض النزاع في أي قضية ؛ لأن كلاًّ من المتنازعين يمكن أن يجد فيه ما يؤيد وجهة نظره . ولذلك فإن التقرير ينصح بإصدار كتيبات تتضمن أحاديث تؤيد وجهات نظر الحداثيين والعلمانيين ، حتى لا يبقىعامة المسلمين ضحية للأحاديث والتفسيرات التي ينشرها بينهم العلماء التقليديون والأصوليون » . يعتمد التقرير في هذا على كتابات أقوام معروفين بالزندقة وإنكار السنة .
رابعاً : استغربت حين قرأت هذا التقرير عن أي عالم إسلامي يتحدث ؟ أين في العالم الإسلامي أولئك الحداثيون أو العلمانيون الذين لا تتاح لهم فرص النشر ، أو الذين ليست لهم منابر عامة يخاطبون منها الجماهير ، أو الذين لا تؤثر آراؤهم في المقررات المدرسية ؟ أليست هذه الأمور كلها في أيدي العلمانيين في بلدان العالم الإسلامي كله إلا ما ندر ؟ أليست أنظمة الحكم في كل بلدان العالم الإسلامي إلا ما ندر أنظمة لا تخفي علمانيتها ؟ عبرت عن استغرابي هذا لأحد إخواننا السعوديين فابتسم وقال : إن هذا التقرير إنما يتحدث عن السعودية . فكرت في محتويات التقرير مرة أخرى فأيقنت أن سهامه موجهة فعلاً نحو السعودية . خامساً : قلت في نفسي : أخشى أن يظن بعض من يقرؤون هذا التقرير ممن لا يزالون يحسنون الظن بأمثال هذه المؤسسات الغربية أن الديمقراطية التي يدعو العالم الإسلامي إليها هي الديمقراطية بمعنى الرضى بحكم الشعب . أقول لهؤلاء : هَبُوا أن دولة كالسعودية قالت للغربيين : تريدون ديمقراطية ؟ حسناً ! فلنفعل كما فعلتم أنتم معاشر الأمريكان . لندع ممثلين للشعب من كافة مناطقهم الجغرافية ، ولنقل لهم : صوغوا لبلدكم دستوراً كما فعل الأمريكان ؛ ولنفترض أن هؤلاء الممثلين اجتمعوا فكان أول ما ذكَّروا به أنفسهم واجتمعت عليهكلمتهم أنهم ليسوا سعوديين فقط لكنهم مسلمون أيضاً ، وأن إسلامهم هذا هو جوهر هويتهم ، ومعتمد جماعتهم ، ومصدر عزهم وكرامتهم ، وسبب تقدير الأمة الإسلامية لهم ، وأنهم يؤمنون لذلك بأن دستورهم الأعلى الذي يحكم حياتهم ويهيمن على كل ما يصدرون من وثائق هو نصوص الكتاب وصحيح السنة ، وأنه ينبغي لذلك أن لا يكون قرروا في نظام حكمنا ولا في قوانيننا ، ولا في مناهجنا الدراسية ، ولا في سياستنا الخارجية ، ولا في أي جانب من جوانب حياتنا ما هو مخالف لما في هذين المصدرين . هب أنهم جلسوا بعد ذلك وتداولوا لعدة أسابيع خلصوا في نهايتها إلى صياغة دستور ، ثم عرضوه على شعبهم في استفتاء عام ، شهد عليهمراقبون محايدون من هيئة الأمم ، فكانت النيجة أن أجازته الأغلبية الساحقة من المواطنين . هل يرتاب أحد بعد هذا في أن هذا الدستور جاء بطريقة ديمقراطية ، وأن على من كان يؤمن بالديمقراطية أن يرضى به للشعب السعودي مهما خالفهم الرأي ؟ كلاَّ . ولكن هل تظنون أن سيرضى الغرب أو ترضى أمريكا بذلك ؟ كلاَّ ثم كلاَّ . لا تنسوا أنهم لا يتكلمون عن الديمقراطية بهذه الصفة العامة التي ذكرناها ، إنهم لا يتحدثون عن ديمقراطية تكون فيها الكلمة للأمة مهما كانت تلك الكلمة . إنهم يريدون نظاماً أشبه ما يكون بنظامهم ، وقيماً أشبه ما تكون بقيمهم ولا سيما في الموقف من الدين ومن العلاقة بين الجنسين . هذه في رأيهم هي الديمقراطية الليبرالية التي لا ديمقراطية حقيقية غيرها . ألا تذكرون ما قال ( بريمر ) للعراقيين من أن هنالك خطوطاً حمراء يجب أن لا يتخطاها مجلس الحكم في وضعه لمسودة الدستور ، وأن من هذه الخطوط فصل الدين عن الدولة . وأن الديمقراطية التي يريدونها للعراق
هي ديمقراطية على المنوال الأمريكي ؟ أو الغربي ؟ إن شعارهم هو : كونوا أحراراً ، لكنكم لن تكونوا في حكمنا أحراراً إلا إذا اخترتم لأنفسكم ما اخترنا نحن لأنفسنا ، إلا إذا كانت طريقة حياتكم كطريقتنا ، إلا إذا لم يكن في ما اخترتموه ما نرى فيه مهدداً لقيمنا وثقافتنا ومصالحنا . فيما عدا ذلك فأنتم أحرار جد أحرار .
سادساً : مما يدلك على هذا أنهم ليسوا راضين حتى عن من كان من العلمانيين منا غير معجب بهم . يقول التقرير إنه بما أن العلمانيين يؤمنون مثلنا بفصل الكنيسة عن الدولة « فقد كان المفروض أن يكونوا الحلفاء الطبيعيين لنا في العالم الإسلامي . لكن المشكلة كانت وما تزال أن كثيراً من العلمانيين المهمين في العالم الإسلامي لا يوادوننا ، بل قد يكونون شديدي العداوة لنا لأسباب أخرى » .
سابعاً : ما الثقافة التي يدعوننا إليها ؟ إنها ليست العلوم التي كانت من أسباب تقدمهم المادي ، وإنما هي الكفر والعري والزنا والشذوذوالمخدرات والفردية التي هي من علامات تدهور حضارته لا من أسباب قوتها . لذلك تجد بعضهم يقول إنه لا خوف على حضارتنا من حضارة أخرى معاصرة ، وإنما الخوف عليها من الانتحار الذي بدأت تمارسه ويشيرون إلى مثل أنواع السلوك تلك .
ماذا نفعل ؟ هل نستجيب ونخنع ؟ فوالله لن يزيدهم هذا إلا احتقاراً لنا ، وتمادياً في إذلالانا ، ودأباً على الوقوف في طريق تقدمنا الاقتصادي والتقني والعسكري .
فلنقل لهم : لقد رضينا بأن نعيش معكم في سلام ، وأن من يعتدي على الأبرياء منكم ومنا لا يمثلنا ولا يعبر عن رأينا . لكنا لن نرضى بأن يكون هذا التعايش تعايشاً بين سادة وعبيد ، أو محتلين ومواطنين ، أو منتجين ومستغلين
] وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ ( الحج : 40 ) . 

سهام بوش ضد الإرهاب تصيب الروح الأمريكية في مقتل


سهام بوش ضد الإرهاب
تصيب الروح الأمريكية في مقتل




أعني بالروح هنا ما يشعر به فرد أو جماعة أو شعب بأكمله من اعتزاز بسبب ما يراه من فضل يتميز به عمن سواه ؛ فضل في خصال أو علم أو مال أو قوة أو غير ذلك ، سواء كان محقاً في شعوره هذا أو واهماً ، والإنسان يصاب في هذه الروح حين يفقد ما كان يعتز به ، أو حين يتبين له أنه ليس كما تصوره ، أو حين يظهر له أنه ليس وحده الذي يتميز به ، وهكذا .
فما الروح الأمريكية بهذا التعريف ، وكيف أصيبت ؟ تتمثل الروح الأمريكية في أمرين : القوة المادية ، والقيم السياسية .
لا يكاد الأمريكان يكفُّون عن ترديد القول بكثير من الفخر والزهو بأنهم أعظم قوة على وجه الأرض ، بل أعظم قوة في تاريخ البشرية ، وأنه لن تستطيع لذلك أية قوة بشرية أخرى أن تهزمهم ، وأنهم سيعيشون لذلك آمنين لا يخافون من أن تُشن عليهم حرب أو يغلبهم عدو ، فمخزونهم من أسلحة الدمار الشامل وغيرها لا مثيل له ، ولا مثيل لقواتهم العسكرية في عددها وعدتها وتدريب أفرادها . وهي ما تزال تطور كل هذا وتنفق عليه ما لا تنفق دولة أخرى على وزارة دفاعها ، فميزانية البنتاجون تساوي الآن مجموع ميزانيات الخمس وعشرين دولة التي تلي الولايات المتحدة في القوة العسكرية ، ويقال إنها ستكون بعد بضعة أعوام أكثر من ميزانيات كل وزارات الدفاع في العالم مجتمعة . وهذا يعني أن هذه القوة العسكرية الهائلة وراءها اقتصاد قوي ، بل يقال إنه أقوى اقتصاد في العالم . ثم وقعت حوادث نيويورك وضُربت أمريكا لأول مرة في تاريخها في عقر دارها . وقد كانت الواقعة وحدها كافية لتبدد شيئاً من ذلك الشعور بالأمن ، لكن إدارة بوش أرادت استغلالها كما يقول كثير من الأمريكان أنفسهم لتنفيذ أجندة كانت
قد أعدت سابقاً ، فصارت في سبيل ما تسميه بمحاربة الإرهاب تهوّل من الأمر وتذكّر المواطنين في كل مرة بأن هنالك خطراً ماثلاً ارتفعت درجته اليوم إلى كذا ، انخفضت إلى كذا ، ارتفعت مرة أخرى إلى كذا ، وهكذا . تحول ذلك الشعور بالأمن إلى خوف دائم ، كان سهماً في المقوم الأول من مقومات الروح الأمريكية ، ومما زاد من الخوف بل والهلع أن بعض المختصين يرون أن حكومة بوش لم تقم بما يجب من المحافظة على أمن البلاد ، فهذا أحدهم يقول في مقال له : « إن الرئيس جورج بوش قد أفرد الهجوم الإرهابي النووي على الولايات المتحدة بأنه التهديد الحقيقي الذي ستواجهه الأمة في المستقبل المنظور . في مواجهته لهذا الخطر أكد بأن « الأسبقية العليا للأمريكان هي أن يحُولوا بين الإرهابيين وامتلاك أسلحة دمار شامل » ، لكن كلماته لم يتبعها حتى الآن عمل [1] . وإذا كان الرئيس بوش قد عجز عن أن يتبع قوله بعمل يراه هذا الكاتب لازماً ؛ فإنه قد قام بأعمال أخرى رأى أنها هي التي ستساعد على تسديد ضربات موجعة للإرهابيين ، لكن تبين أنها سهام تصيب في الوقت نفسه المقوم الثاني من مقومات الروح الأمريكية . وذلك أن الأمريكان يعتقدون أن نظمهم السياسية والقضائية هي أحسن النظم وأعدلها [2] ، وأن دستورهم الذي كُتب في القرن الثامن عشر هو أحسن وثيقة كتبها بشر ( بل يبالغ بعضهم فيزعم أنها كانت إلهاماً من الله تعالى ! ) . ومما زادهم فخراً بهذا وفتنة به ؛ أنهم رأوا الناس في العالم كله تقريباً يثنون على نظمهم هذه ويعدونها المثال الذي يجب أن تحذو الدول الأخرى حذوه . وكان الأمريكي إذا خرج سائحاً قوبل بالترحاب والاحترام في دول العالم كله تقريباً . ثم انقلب كل شيء بفضل سياسة بوش في محاربة ما يسميه بالإرهاب التي هي في حقيقتها محاربة باسم الدين المسيحي للإسلام . ماذا بقي للولايات المتحدة لتفخر به ؛ أبرئيس يتهمونه كما لم يتهموا رئيساً قبله بكثرة الكذب ؛ حتى إنهم ليؤلفون الكتب في هذا ، ويتخذون له مواقع على الشبكة ؟ أبحكومة تبيّن لهم أنها خدعتهم وغشتهم حين سوغت هجومها الظالم على العراق بحجة امتلاكه لأسلحة دمار شامل ؟ ( كيف يكون الحكم باسم الشعب إذا كان من يختاره الشعب يخدعه ويفعل ما لا تريد أغلبيته ؟ ) أباحتجاز المئات من الشباب المسلم ( بل بعض الأطفال بتعريف قانونهم ) في جزيرة نائية بتهمة الإرهاب وعدم تقديمهم لمحاكمة وعدم السماح لهم بمحامين ؟ أبسنّ قوانين جديدة تتعارض مع كل ما كان يعتز به الأمريكان من قيم الحرية والعدالة ؟ أباكتشافهم بأنهم أصبحوا دولة بل شعباً مكروهاً يستحيي الواحد منهم الآن أن يصرح إذا ذهب إلى الخارج بأنه أمريكي ؟ أبما يعرفه الكثير منهم الآن من قصص في معاملة المتهمين من المسلمين حتى في داخل الولايات المتحدة ؟
قبل بضعة أيام عقد أحد المحامين الذين كانت الدولة قد عينتهم ( بحكم قوانين سابقة ) للدفاع عن متهمين مسلمين فقراء لا يملكون ما يستأجرون به محامياً . عقد هذا الرجل مؤتمره بعد أن كان من دافع عنهم قد أُدينوا ، قال الرجل كلاماً فحواه أنه سيقال لكم إن هؤلاء الشباب إرهابيون وإنهم مجرمون . ثم قال إنه لم يكن يعرف شيئاً عن الإسلام ولا المسلمين حتى كان اتصاله بهؤلاء الشباب ، فأثنى على ما وجد فيهم من خلق مثالي ، وضرب لذلك مثلاً بواحد منهم ، قال إنه حصلت مساومة بينه وبين متهميه ( من المخابرات ) بأن يعترف ببعض الجرائم في مقابل إسقاط بقيتها عنه ، وأن عقاب ما يعترف به لن يزيد على سنتين ، مع أن عقابها كلها يصل إلى أكثر من 100 سنة ، يقول إنه وافق ، لكنه عندما رأى الورقة التي طُلب منه أن يوقّع عليها ، قال إن هذه كلها أكاذيب ، فأنا لا أستطيع أن أحلف بالله على شيء أعلم أنه كذب مهما كانت النتيجة . قال المحامي : من منا يفعل هذا ؟ وقال : إنني لا أقول فقط إن هذا الشاب لا يكذب ، بل أقول ما أظنه يعرف حتى كيف يكذب ! ونقول نحن إنه إذا كان من شأن الأكاذيب والاعتداءات الظالمة والاتهامات الباطلة أن تفت من روح الأمة الأمريكية ؛ فإنها بحمد الله تعالى تقوّي من روح المسلمين منهم ، وتزيدهم ثقة بدينهم واعتزازاً به .
وقد كانت السهام الموجهة إلى المقوم الثاني من مقومات الروح الأمريكية أكثر إيلاماً وأشد تأثيراً ، تجد التعبير عنه في كثرة ما قيل ويقال عنه في وسائل الإعلام مسموعة ومشهودة ومقروءة ، فهم الآن يناقشون أموراً كانوا يعدُّونها من مسلَّمات حضارتهم ، وصدق الله العظيم : ] وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِه [ (فاطر : 43) . 

هيئة الأمم


هيئة الأمم
 



بما أن المسلمين أمة عظيمة من الأمم التي تسكن كرتنا الأرضية ، فإنه يهمها أن تعيش في سلام مع غيرها من الأمم ، وأن تشاركها وتتعاون معها في الرقي بالمجتمع الإنساني ، وفي البحث عن حلول للمشكلات التي تواجهنا جميعاً ، طبيعيةً كانت أم سياسية أم اجتماعية . وهيئة الأمم المتحدة منبر من أحسن المنابر لتحقيق ذلك . لكننا نرى أن استمرار هذه المنظمة في أدائها لهذه المهمة العظيمة رهين بإقرارها لثقافات الشعوب المكونة لها ، وقيمها وخصوصياتها ، وأن تكون وسيلتها للتغيير في المسائل التي تختلف فيها الثقافات والحضارات هي الحوار والتفاهم بالتي هي أحسن ، وألاَّ تتحول إلى أداة تستغلها بعض الدول أو الجماعات لفرض
معتقداتها وقيمها ، وقمع المخالفين لها . وعليه فإننا نود أن نؤكد باعتبارنا أمة إسلامية أننا لا نأخذ معتقداتنا وقيمنا من مصادر غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن هذين المصدرين الإسلاميين يمثلان قانوننا الأعلى الذي نحكم به على غيرهما ، فنرفض ما يتناقض معه ، ونفسر في نطاقه ما نراه موافقاً له . وكما أن هذا الموقف مقتضى ديننا فهو أيضاً مقتضى حرية الدين التي وردت في الإعلان العالمي للحقوق الإنسانية ؛ إذ إن هذه الحرية لن يكون لها معنى بالنسبة لنا إذا كان غيرنا هو الذي يفرض علينا كيف نفهم ديننا ، وماذا نأخذ منه وماذا ندع ، ثم يعاقبنا إذا نحن لم نلتزم بما أَمَرَنا به !
في ضوء ما سبق نقرر رفضنا القاطع لبعض ما ورد في مقررات مؤتمر بكين متعلقاً بالعلاقة الجنسية ، ونرى فيه دعوة إلى الإباحية التي لن ينتج عنها إلا مزيد من التفسخ الخلقي ، والتفكك الأسري ، وانتشار الأمراض التناسلية ، وتعزيز النزعة الفردية ، وما يتبع ذلك كله من زيادة في الجريمة ، وتهديد لأمن المواطنين وسلامتهم . لكننا نقر مع ذلك أن المرأة تعاني عالمياً من ظلم يجب أن يرفع عنها ، ومن فقر يجب أن يزال ، وأن هذا إنما يكون بالتعاون بين الجنسين باعتبارهما مخلوقين بشريين تحركهما الحجج العلمية والدوافع الخلقية . ولن يتحقق أبداً بإثارة جنس على جنس ، بل يُخشى أن تؤدي مثل هذه الإثارة إلى صراع تكون المرأة في نهايته هي الخاسرة .
ويسرنا أن نشارك غيرنا من شعوب العالم في حل هذه المشكلات مهتدين بديننا وتجاربنا وتاريخنا ، ومستفيدين كذلك من فكر غيرنا وتجربته وتاريخه . وعليه فإننا في مجال إزالة الفقر ندعو دول العالم وأفراده إلى أن يطبقوا فريضة الزكاة الإسلامية ، ولو فعلوا لما بقي على وجه الأرض فقير ذكراً كان أم أنثى . كيف لا ، وهي ضريبة سنوية مقدارها 5,2% من رأس المال ، تؤخذ من الأغنياء وتوزع على الفقراء ، وأن يطبقوا المبدأ الإسلامي الذي يجعل من حق كل إنسان أن يعيش حياة كريمة ما دام المجتمع قادراً على ذلك . ونضم صوتنا إلى المنادين بإزالة الآثار السلبية للعولمة وما ينتج عنها من زيادة فقر الفقراء، واستغلال عمل النساء . ونرى مع غيرنا أن مما يساعد على تخفيف الفقر عن البلاد النامية أن ترفع عنها الفوائد الربوية على الديون التي تقترضها من الدول الغنية ؛
فإن هذه الفوائد قد صارت عائقاً لهذه الأمم عن كل نمو اقتصادي . وفي مجال التعليم نرى أن يشمل التربية الخلقية التي تغرس في المرأة الاعتزاز بما ميزها الله به ، وترضى به ، ولا تحاول أن تلهث وراء تقليد الرجال ومنافستهم فيما ميزهم الله به ] وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ [ ( النساء : 32 ) وأن يفهم ما يمتاز به كل من الجنسين بأنه وسيلة للتعاون بينهما ، وتكميل للواحد منهما بالآخر ، وعون على بناء الأسرة واستقرارها ، وتحقيق لمصلحة الأولاد .
وفي مجال الموازنة بين عمل المرأة خارج بيتها وبين واجباتها الأسرية نرى أن يطبق المبدأ الإسلامي الذي يلزم الرجل بالنفقة على زوجه وأسرته ، ويجعل ذلك حقاً لهم ، وأن تعين الدولة كل امرأة تفضل البقاء في بيتها لتربية أولادها وإعانة زوجها . إن عمل المرأة خارج بيتها ينبغي أن يُنظَر إليه على أنه ضرورة اقتصادية لا أمر يقتضيه تكريم المرأة واحترامها 

المشاركات الشائعة