بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 7 فبراير 2011

سياسة التناقضات المستعلنة


سياسة التناقضات المستعلنة




ما جريمة العراق التي ستعاقبه عليها الولايات المتحدة بحرب ربما أزهقت آلاف النفوس من العراقيين ، وشردت آلافاً أخرى ، وأعاقت آلافاً غيرها ، وخربت البلاد ، وكلفت الولايات المتحدة بلايين الدولارات ، وذهب ضحيتها العشرات إن لم تكن الآلاف من الجنود الأمريكان ، ثم ربما كان من آثارها تلويث للأجواء يتضرر منه البشر من كان منهم قريباً من العراق ومن كان قاصياً عنها ؟
ما الجريمة التي تستدعي هذا العقاب البالغ التكاليف ؟ إنه تهمة امتلاكه لما يسمى بأسلحة الدمار الشامل . العراق ينفي هذه التهمة . لكن الدولة التي تريد أن تخوض تلك الحرب الضروس تملك من أسلحة الدمار الشامل ما يكفي كما يقولون لتحطيم الكرة الأرضية كلها . وحليفتها في تلك الحرب بريطانيا تملك منها الشيء الكثير ، ومحرضتها على الحرب إسرائيل تملك عدداً من القنابل النووية ؛ فما الذي جعل امتلاكهم لها حلالاً وللعراق وغيرها من الدول العربية حراماً وإجراماً ؟ وإذا كانت العراق تنفي امتلاكها لمثل تلك الأسلحة ، فإن دولاً أخرى وصفت بأنها من محور الشر تعترف بأنها تملكها ، بل وأنها ستطورها . وإذا كانت العراق قد سمحت لمفتشي الأمم المتحدة بدخول أراضيها ، وولوج كل مرفق فيها ، فإن كوريا الشمالية قد طردتهم شر طردة ، وأعلنت ذلك على الملأ؛
فما الذي جعل العراق خطراً داهماً ولم يجعل كوريا كذلك ؟ وإذا كانت جريمة العراق أنها لم تنصع لقرارات الأمم المتحدة ، فإن الدولة التي تريد معاقبتها على ذلك تقدم قرارات مجالسها التشريعية على كل قرارات الهيئات الدولية ، وتحول دوم معاقبة إسرائيل حين تخرج على تلك القرارات . بل إن الدولة التي تريد معاقبة العراق على عدم انصياعها لأوامر الأمم المتحدة ، تعلن أنها ستخوض حربها مع العراق رضيت الأمم المتحدة أم غضبت . والمسؤولون فيها يتكلمون عن الأمم المتحدة بكثير من التعالي ، ويأمرونها بأن تفعل كذا وكذا ، وإلا كانت قد فشلت في أداء مهمتها ؛ حتى إنك لا تدري : أعن الأمم المتحدة يتحدثون ، أم عن مدرسة
ثانوية في قرية من قراهم ؟ وإذا كانت أسلحة الدمار الشامل أول ما تكون خطراً على الدول المجاورة لها ، لا على بريطانيا و أمريكا التي تسعى لحربها وعقابها ، والتي تبعد آلاف الأميال عنها ، فإن هذه الدول المجاورة مجمعة على رفضها للحرب ، فلماذا لا يستمع لرأيها ؟ وإذا كان الغرض من الحرب هو تخليص الشعب العراقي من دكتاتورية غاشمة ؛ فما دكتاتوريته بالدكتاتورية الوحيدة في العالم ، فلماذا كانت هي الوحيدة التي تستحق أن تحارب ؟ حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا حكومات ديمقراطية ، والديمقراطية هي حكم الشعب ، أو هي في الواقع حكم من تختاره أغلبية من شاركوا في الانتخابات ممن تحق لهم المشاركة . لكن الذين يعترضون على الحرب الآن في كل من الدولتين هم بحسب الاستطلاعات أكثر عدداً من الذين صوتوا لكل من الزعيمين الأمريكي والبريطاني ومكنوهما من حكم بلادهم . لكن كلاً من الزعيمين الآن يضرب برأي هذه الأغلبية عرض الحائط ، ويمضي لا يلوي على شيء في طريقه إلى الحرب . وكذلك تفعل الدول الديمقراطية المؤيدة للحرب ؛ حتى إن مراسلاً لمحطة الـ ( بي . بي . سي ) قال إنه تجول في شوارع بلدان أوروبا الوسطى فالتقى بالكبار والصغار والرجال والنساء باحثاً عن شخص واحد مؤيد للحرب فلم يجده ! بل وجد الناس معارضين للحرب قائلين إنها حرب من أجل البترول . لكن حكومات هذه الشعوب كانت من أول من أعلن تأييده للولايات المتحدة . وأيضاً إذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب ، فلماذا لا يستمع إلى الشعوب العربية التي يهمها أمر العراق أكثر مما يهم غيرها . وقد قالت هذه الشعوب وقال حكامها إنهم لا يريدون الحرب ، وأنهم يعدونها اعتداء ، وأن آثارها ستكون ضارة ضرراً بليغاً بالمنطقة كلها . ولماذا لا يستمع إلى رأي الشعوب الأوروبية والأسترالية والنيوزيلندية وغيرها من شعوب العالم التي خرجت فيمظاهرات تقدر بالملايين معترضة على خوض مغامرة الحرب ، خائفة من نتائجها ؟ أم أن الديمقراطية إنما يلتزم بها إذا كانت موافقة لمعتقدات الحاكم ؛ فإذا هي خالفتها تحولت إلى دكتاتورية لا تلقي لآراء الشعوب بالاً مهما كثر عددهم ، ومهما كان الأمر مهماً لهم ؟
ومع هذا الخروج على مبدأ الديمقراطية تزعم لنا الدول التي توقد نار الحرب أنها إنما تفعل هذا لنشر الديمقراطية وتحقيق الحرية !
إن الباطل لجلج ؛ وهذا التناقض يدل على أن الأهداف المعلنة لحرب العراق ما هي بالأهداف الحقيقية . ما الذي يدعو الحكومات الغربية المصرة على الحرب للوقوع في مثل هذا التناقض ؟ ما الذي يدعوها لأن تخالف رأي شعوبها وتخسر من كانوا يعدون من أصدقائها ؟ ما الذي يدعوها لأن تصرف الأموال الباهظة وتضحي بالنفوس الغالية ؟ إنه لا يمكن أن يكون مجرد حرص على إزاحةدكتاتور عن كرسي حكمه ، ولا يمكن أن يكون هلعاً من أسلحة دمار شامل على فرض وجودها لا تأثير كبير لها على الدول الغربية . لا بد أن يكون إذن شيئاً تراه هذه الحكومات أمراً جللاً مهدداً لاستمرار ثقافتها وحضارتها الغربية ، لكنه مع ذلك أمر لا تستطيع أن تصرح به ؛ لأنه من الصعب عليها أن تقنع شعوبها به ، ولأنه ربما كان منطلقاً من موقف اعتقادي لا تشاركها جماهيرها فيه ، ولأنه يتناقض مع قيم طالما رُبِّيَ الناس في الغرب الحديث عليها ، ولا سيما في أيام الحرب الباردة ، لإظهار تفوق الحضارة الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية على الأيديولوجية الشيوعية . كيف تتخلى هذه الجماهير عن قيم قيل لها إنها لب حضارتها وسر تفوقها الخلقي ؟
ما هذا الأمر الجلل الذي يدعو حكام الدول الغربية وبعض مناصريهم من قادة فكرهم إلى الخروج على هذه القيم التي عاشوا عليهاسنين طويلة من حياتهم الحديثة التي أعقبت الحركة الاستعمارية ؟
لا بد أن يكون الذي سبب كل هذا الخوف وسوغ تلك التناقضات والتضحيات أمراً لا تقاومه أو تقف في طريقه قوة السلاح المادي مهما عظمت . إنه أمر يُخشى أن يدخل في قلوب كثير من الأفراد فيجعل منهم أفراداً آخرين لا صلة لهم بالحضارة الغربية كما عرفت حتى الآن . فما هو يا ترى هذا الشيء ؟
أترك أمر تحديده لفطنة القراء الكرام .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة