بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 7 فبراير 2011

المستقبل لنا


المستقبل لنا

لا أقول لشخص فلان وفلان، وإنما أقول لقِيَمِنا المؤسسة على كتاب ربنا وبيان رسولنا.
ولا أقوله لأستشهد به على صدق الرسالة المحمدية؛ فإن الحق حق في نفسه آمن به الناس أم لم يؤمنوا.
وأعـلم أن المسـتقبل غيـب لا يعلمه إلا الله، وإنمـا أقـول ما أقول رجاءً وتوقعاً لما أشاهد من علامات أراها دالة عليه.
فهؤلاء السياسيون وأهل الرأي من الغربيين يصرحون بأنه لم يبق بعد سقوط الشيوعية غير الإسلام متحدياً للحضارة الغربية، لكنهم يقولون إن تحدِّيه لها ليس تحدياً بسيف، وإنما هو تحدٍّ بقِيَمٍ تغزو العقول والقلوب. وقد بدؤوا لذلك يكثرون من الحديث عن قيمهم، ويبذلون الأموال الطائلة لنشرها في العالم الإسلامي.
لكنهم يمكرون ويمكر الله؛ والله خير الماكرين. فالدلائل كلها تشير إلى أن معركتهم هذه معركة خاسرة؛ لأنها دفاع عن قِيَم فاسدة وباطلة، وأن المستقبل لقِيَم الحق والخير التي جاءت بها رسل الله ودعا إليها خاتم أنبياء الله. إنها القيم التي ستغزو القيم الباطلة وتُزهقها حتى في عقر دارها، وتضيء لأهلها أنوار الحق فتجعلهم يفيئون بإذن الله إلى دين الله أفواجاً.
ولقيم الحق هذه جنود مجندة في داخل الحضارة الغربية نفسها؛ فكل ما فيها من حقائق ومناهج علمية، وكل ما فيها من أصوات منكرة للفساد داعية إلى مكارم الأخلاق، وكل ما فيها إنكار لواقعها وبحث عن بديل له أسلحة مناصرة للحق فاتحة لأبواب الخير.
كان بعض الغربيين في الماضي يعتزون بدينهم ويحسبون أن لا دين خير منه؛ لأنه دين الأمم التي قادت الثورة العلمية واستفادت من تقنيتها في غزو العالم والهيمنة عليه، بل كانوا يجعلون نشر دينهم من مسوغات ذلك الغزو. لكن هذا العلم نفسه هو الذي بدأ منذ مدة يكشف لهم أباطيل دينهم وينصر حقائق دين الإسلام. أدت دراستهم لدينهم دراسة علمية إلى حقائق تدل على أن الكتاب الذي لديهم لا يمكن أن يكون كلام عيسى نبي الله، بل لا يمكن أن يكون حتى رواية صحيحة عنه بألفاظ الرواة، فانتهت خرافة أن كل ما في البايبل (هكذا يسمون كتابهم) هو كلام الله. فلم يعد يؤمن بهذا عالم مختص بالدراسات البايبلية، وإنما بقي المؤمنون به عوامَّ لا يعرفون شيئاً عن تلك الحقائق أو دعاةً مغرضين لا يعقلون. وتبين لمن عرفوا الإسلام منهم صدق ما قرره من تحريف للكتاب، ثم بدؤوا يدركون ـ مع تطور نظرتهم العقلانية إلى الدين ـ حقيقة كبرى أخرى قررها القرآن وأكدها هي أنه لا يمكن أن يكون عيسى ـ عليه السلام ـ ابناً لله وهو مخلوق من مخلوقاته. ما أكثر الذين صاروا يصرِّحون بإنكارهم لهذه العقيدة الباطلة، وما أكثر الذين ثابوا إلى الدين الحق بسبب إنكارهم لها.
ثم إن العوامَّ وأولئك المغرضين صاروا يُحرَجون غاية الحرج في أيامنا هذه مما بدأ يُنشَر من نصوص البايبل من كلام فاحش مناف لمكارم الأخلاق أدى ببعضهم إلى المطالبة بسحبه من مكتبات التلاميذ، وعدِّه من الأدب الفاحش الذي يُمنَع الأطفال من الاطلاع عليه!
هل نجحت الأيدلجيات التي حلت محل ذلك الدين في أن تقدم للغربيين بديلاً يغني عن كل دين؟ يقول بعض كبار مفكريهم الآن: كلا.
إن العالم الحديث الذي نسلِّم به إنما هو في أساسه نتاج ثورة القرن السابع عشر العلمية، وفترة التنوير التي تبعتها. لقد كانت هذه في حقيقتها بحثاً عـن حقيقة مطـلقة ـ غير مأخوذة من أرستطاليس ولا من البايبل ـ يمكن أن يبنى عليها مجتمع يعامَل فيه كل المواطنين بالمساواة.
ثـم يـقول إن هـذا المشـروع كـان ناجـحاً إلى الحـد الذي أُفـرغ فيـه مفهـوم (الله) مــن معـنـاه. ثـم يـقـول: لكـن هـذا المشروع فشل كما بيَّن (ألسدير ماكنتير ِAlisdair McIntyre ) أحد كبار الفلاسفة المعاصرين. لقد فشلت في إيجاذ ذلك الأساس العقلي المطلق كل المحاولات الثلاث المشهورة: الفاشية، والشيوعية، والرأسمالية(1).
لم تبق إذن إلا العلوم الطبيعية. لكن هذه العلوم التي أدت في البداية إلى غرور بعضهم واستكبارهم، واعتقادهم بأنها ستغني البشرية عن الهداية السماوية، بدأ يتبين لهم من تجربتهم معها غير ذلك: اكتشفوا أنه لا بد للناس من معتقدات تقوِّي جانب الخُلُق الكريم في نفوسهم، وتجعل منهم جماعة متعاونة لا أفراداً أنانيين. لكنهم لا يريدون ديناً يتنافى مع المبادئ التي قام عليها العلم الطبيعي الذي رأوا من ثماره ما جعلهم يعتقدون صحة منهجه القائم على العقلانيـة والتجريبية؛ فلا تقبل فيه دعاوى لا دليل عليها، ولا يقبل فيه دعاوى متنافية مع المبادئ العقلية، أو منافية للحقائق الحسية.
اكتشف بعض من عرف الإسلام منهم أنه لا دين غيره تتوفر فيه هذه الشروط؛ فهو وحده الدين الثابتة نصوصه تاريخياً. حدثني بعض الشباب الأمريكيين المسلمين الذين كانوا يدرسون مقرراً في الأديان المقارنـة أن أحد الأسـاتذة ـ ولم يكن مسلماً ـ قال للطلاب: إن كنتم تريدون ديناً ثابتاً تاريخياً فلا دين إلا الإسلام.
ثم اكتشف بعض من هداهم الله ـ تعالى ـ من علمائهم الطبيعيين أنه ليس ثابتاً تاريخياً فقط، بل هو الدين الوحيد الذي يمتاز بعدم منافاته للحقائق العلمية، بل يمتاز بأكثر من هذا هو سَبْقُهُ إلى تقرير حقائق علمية ما عرفت إلا في عصورنا هذه وما كان من الممكن أن يعرفها بشر عادي في العهد المحمدي أو قبله، فكانت حقاً معجزات علمية كانت سبباً في إيمان علماء غربيين متخصصين اطلعوا عليها.
كان الاهتمام بقضية الإعجاز العلمي هذه خاصاً بعلماء ولدوا مسلمين، لكنه بدأ الآن يجذب إلى البحث فيه علماء هُدُوا إلى الإسلام. فهذا أستاذ كبير في علوم الحاسوب بجامعة جورج ميسن Georg Mason بالولايات المتحدة يقول: إن هنالك برنامجاً حاسوبياً يُستعمَل في إثبات صحة نسبة النصوص وكونها لمؤلف واحد أو أكثر، ويرى أنه بالإمكان تطبيقها على النص القرآني العربي لإثبات أن مصدره واحد (على عكس البايبل). اطلعت على فكرة المشروع وكتبت تقريظاً له، وقلت: إنني لأرجو أن يصل الباحثون ـ بهذا المنهج الحاسوبي ـ ليس فقط إلى أن للقرآن مصدراً واحداً، بل إلى أن ذاك المصدر لا يمكن أن يكون مصدراً بشرياً!
والإسلام هو وحده الدين الذي ليس في ما يقرره في باب العقائد وسائر التشريعات ما يتناقض مع شيء من المبادئ العقلية. وقد انتصرت مناهج العلوم الطبيعية للدين الحق انتصاراً في هذا المجال هو إنكارها لما يسمونه الآن بالمادية الغليظة التي كان يقول أصحابها: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] زاعمين أن الدليل الوحيد على دعاوى الحقائق الغيبـية هـو المشاهدة الحسية. جاءت العلوم الطبيعية بمـناهج تعتمد الاستنتاج العقلي والانتقال به من الشاهد إلى الغائب، من الآية المشاهَدة إلى الحقيقة الغائبة التي هي آية لها.
والإسلام هو الدين الذي ليس فيه ما يتعارض مع مكارم الأخلاق. كيف وهو الدين الذي يقول نبيه إنه إنما أرسل ليتممها؟ وإنه لمما يبشر بأن المستقبل للإسلام اكتشاف كثير من العقلاء في الغرب أن المساوئ الكثيرة التي يعانون منها ترجع إلى أسباب في فكرهم العلماني البعيد عن الدين. وقد كنت عرضت قبل ذلك في بعض المقالات في هذا العمود كتابين لمؤلفين أمريكيين يتحدثان عن هذه المشكلة. وهذا كاردينال كاثولوكي أسترالي كنا قد أشرنا إليه في مقالات سابقة يخشى من أن يؤدي فراغ الدمقراطية الغربية وأنانيتها وفحشها إلى أن يجد الناس في الإسلام بديلاً عنها(2).
هـؤلاء قوم عرفوا حضارتهم وعاشوا فيها واستمتعوا بما فيها من خيرات مادية ومعنوية، لكنهم حين هداهم الله إلى الإسلام فعرفوا ربهم وذاقوا حلاوة الإيمان به والسعادة التي تغـمر قلوبهـم بعبادته، لم يعودوا يقدِّمون عليه شيئاً مما حـولهم مـن خـيرات حضارتهم، بل إن بعضهم ممن سُجِن ظلماً فضَّل البقاء في السجن على خروج منه على حساب دينه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة