بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 15 مارس 2011

إنسان جديد خلقته الثورة!



الثورة "التي تبدأ بتغيير نظام الحكم السياسي" ليست تغييراً شاملاً وعميقاً للمجتمع، بنُظِمه ومؤسساته المختلفة، فحسب؛ وإنَّما خَلْق لإنسان جديد وجيِّد في أخلاقه وسلوكه وميوله وموازينه وطريقة تفكيره..

ولقد رأينا ملامح، أو بعضاً، من الملامح الأخلاقية والسلوكية والسيكولوجية للإنسان العربي الجديد في الثورتين التونسية والمصرية على وجه الخصوص؛ فإنَّ "الأنا" الضخمة المتضخِّمة، والتي هي جوهر وأساس الأخلاق التي توفَّر أيديولوجيو النظام الرأسمالي، والليبراليون الجدد على وجه الخصوص، على إشاعتها وتثبيتها، قد انكمشت وضمرت بما يكفي لبروز ونمو "النَّحْن"، أو "الغيرية"، وبما يكفي، من ثمَّ، للمضي قُدُماً في الثورة، ومضاعفة مكاسبها وانتصاراتها.

في ميدان التحرير في القاهرة، رأيْنا الثورة على هيئة مغسلة كبرى يغتسل فيها الشباب الثائر "من الجنسين" من الأدران والأوساخ والأوهام والمفاسِد الفكرية والسياسية والأخلاقية؛ فهم جميعاً، وعلى اختلاف وتباين مشاربهم وانتماءاتهم الاجتماعية والدينية والفكرية، أثبتوا، بالقول والفعل، أنَّهم قد طلَّقوا ثلاثاً وهم إصلاح سياسي وديمقراطي.. متأتٍّ، أو يمكن أن يأتي، من نظام حكم النظام المصري الدكتاتوري الفردي، وتزوَّجوا "زواجاً كاثوليكياً" بالحقائق التي لا يخالطها وهم أو خرافة، وأهمُّها حقيقة أنَّ ما يريدونه من إصلاح أو تغيير لن يتوصَّلوا، أو يصلوا، إليه إلاَّ بعد، وبفضل، إطاحة نظام الحكم هذا.

لقد اكتشفوا جميعاً الحقيقة السياسية الثورية الكبرى ألا وهي أنَّ "أزمة الثورة العربية "في ساحاتها وميادينها المختلفة"" هي في المقام الأوَّل "أزمة قيادية"؛ فإنَّ "كرة صغيرة من الثلج "وهذه الكرة إنَّما هي كناية عن القيادة التي تُشْعِل عود الثقاب في داخل برميل من البارود"" يكفي أنْ تتدحرج في موضع مكتظ بالناس حتى تكبر وتكبر وتكبر..؛ لأنَّ كل مجتمع من مجتمعاتنا العربية، وبفضل أنظمة الحكم الأوتوقراطية التي نُكِبْنا بها، قد تهيَّأت لثورته "الشعبية الديمقراطية على حُكَّامه" الأسباب الموضوعية من وقت بعيد ماضٍ، فاشتدت الحاجة، من ثمَّ، إلى قيادة "من نمط القيادة الشبابية للثورتين التونسية والمصرية" تَجْعَل هذا الممكن الثوري واقعاً؛ ولقد أتت هذه الضرورة التاريخية، أخيراً، بما يشبهها ويوافقها من القيادة الثورية.

كان شعارهم الضمني "اليوم نتَّفِق ونتَّحِد جميعاً "توصُّلاً إلى إطاحة نظام الحكم الاستبدادي" وغداً نختلف وننقسم "اختلافاً وانقساماً ديمقراطيين حضاريين، يسمح بهما، ويستلزمهما، المجتمع الجديد المتَّحِد ديمقراطياً""؛ ولقد عرفوا كيف يظلُّوا متَّفِقين متَّحِدين حتى إنجاز المهمَّة التاريخية الكبرى، وهي إطاحة نظام حكم مبارك؛ وأحسب أنَّ المجتمع الديمقراطي الوليد أو الجديد سيكون لهم على هيئة "منشور زجاجي"، نمرِّر فيه شعاع الشمس الأبيض، والذي هو كناية عن اتِّفاقهم ووحدتهم، لِيَخْرُج من "رحم الأبيض" الأحمر والأصفر والأخضر..، فيُظْهِر المجتمع كل الكامن من ألوانه الفكرية والسياسية..

كلُّهم اليوم لون واحد هو "الأبيض"، فإذا أطاحوا نظام الحكم الاستبدادي، وقد أطاحوه، وإذا بَنوا "بأنفسهم ولأنفسهم" مجتمعهم الديمقراطي الجديد، وقد شرعوا يَبْنونه، فلا بدَّ لهم، عندئذٍ، من أنْ يبدأوا "فرز الألوان "والرايات""؛ فهذا الواحد، والذي ظلَّ واحداً حتى أُنْجِزَت تلك المهمَّة التاريخية الكبرى، يجب أنْ يتعدَّد؛ لأنَّ المجتمع الديمقراطي هو "الوحدة مع التنوُّع"، و"التنوُّع مع الوحدة".

ورأيْنا الأخلاق، قِيَماً ومبادئ وموازين وسلوكاً، تتغيَّر هي أيضاً في الثورة، وبالثورة؛ فإنَّ لكل ثورة ما يناسبها من النُّظُم الأخلاقية.

لم نرَ في ميدان التحرير إلاَّ "الجماعية"، تفكيراً وعملاَ، روحاً وإرادةً وميلاً؛ فالفرد هناك كان من أجل الكل، والكل كان من أجل الفرد.

من قبل الثورة، رأيْنا السموم الأخلاقية تُسمِّم عقول ونفوس شبابنا؛ ورأيْنا المتوفِّرين على بثِّها يُصوِّرونها على أنَّها "الحِكَم" التي لا يستنكف عن الأخذ بها، والعمل بمقتضاها، إلا كل أخرق عديم الطموح، ارتضى العيش ابد الدهر بين الحُفَر. وهُم لم يتورَّعوا عن إظهارها على أنَّها "الذكاء الاجتماعي"، فـ"الذكي" إنَّما هو الذي يَعْرِف من أين تؤكَل الكتف؛ فإذا أنتَ ظللت فقيراً بعدما تبوَّأتَ منصباً عاماً فهذا إنَّما يدلُّ على نقصٍ في ذكائكَ، أو وفرة في غبائِكَ، فـ"الفرصة" سنحت لكَ؛ لكنَّكَ فشلتَ في اغتنامها!

كان النظام الأخلاقي القديم يقوم على مبادئ يُلبِّي التزامها حاجة نظام الحكم الاستبدادي إلى بقاء الناس متخلِّقين بأخلاق العبيد؛ فلا خلاص إلا الخلاص الفردي، اسْعَ فيه، وإيَّاكَ أن تسعى في الخلاص الجماعي. مجتمعكَ إنَّما هو "في ماضيه وحاضره ومستقبله" غابة ذئاب، فكُنْ ذئبا حتى لا تأكلكَ الذئاب، فإنْ لم تَقْتُلَ تُقْتَل، وإنْ لم تَسْرِق تُسْرَق، وإنْ لم تُجوِّع غيركَ تجوع. اسْعَ في خطب ودِّ رئيسكَ، وولي نعمتكَ، ولو بما يعود بالضرر على رفاقِك. 

داهِن ذوي السلطان، وجاهِد في سبيل الفوز برضاهم، فقد تصبح مثلهم. إمَّا أن تعمل لمصلحة غيركَ وإمَّا أن يعمل غيركَ لمصلحتكَ. إمَّا أن تكون عبدا وإمَّا أن تكون مالكا للعبيد. إذا كان لديكَ قمح فلا تَبِعْهُ كله.. ادَّخر بعضه "فهذا "قِرْشٌ أبيض" يفيد في "اليوم الأسود"" فقد يجوع الناس، فتبيعُ ما ادَّخَرْت، عندئذٍ، بثمن باهظ. ادْعُ إلى الأمانة والاستقامة حتى يَسْهُلَ عليكَ سرقة مَنْ تحلَّى بتلك الفضيلة. ادْعُ إلى الصِدْق حتى يُصِدِّق الصادق كذبكَ.

لا تبحث عن "الحقيقة"، أو تنحاز إليها، فليست الحقيقة إلا ما يُفكِّر فيه موسوليني الآن؛ وإذا كان لا بد من أن تتعلَّم شيئا فتعلَّم "الكذب الحيوي"، فـ"الحقيقة" إنَّما هي "فن الكذب المفيد"! 

كل شيء فسد، حتى "التحية الأخوية"؛ وفَقَد المجتمع البقية الباقية من إنسانيته، ومن الإنسان في إنسانه، فأنتَ لا يمكنكَ أن تدوس برجلك الإنسانية في غيرك وأن تظل، في الوقت نفسه، محتفظا بإنسانيتك.

في ميدان التحرير، رأيْنا "الفرد"، ورأيْنا "الجماعة"؛ ولقد ثَبُت حتى للطفل في تفكيره ووعيه أنَّ مقولة "الفرد يصنع التاريخ" هي الخرافة بعينها، وأنَّ مقولة "الشعب يصنع التاريخ" هي وحدها المفعمة بالحقيقة.

الفرد هناك لم يختفِ من مسرح الأحداث التاريخية؛ لكنَّ وجوده وبطولته لم يَظْهَرا إلاَّ بصفة كونهما جزءاً لا يتجزَّأ من وجود وبطولة الجماعة؛ فلقد رأيْناه هناك "صانع أحداث"، و"بطلاً"، و"قائداً"، و"نجماً"، يتعلَّم، ويُعلِّم غيره، أهمية وضرورة "الجماعية"، و"التعاون"، روحاً وعملاً وأداءً، وكيف تكون، ويجب أن تكون، العلاقة بين "الأنانية" و"الغيرية"، بين "الفرد" و"الجماعة"، بين "البطل" و"الجمهور"؛ ورأيْناه أيضاً يتعلَّم، ويُعلِّم غيره، أنَّ "الهدف" ما عاد ممكناً أن يتحقَّق إلاَّ بأيدي أناس يؤمنون بمبدأ "الفرد من أجل الكل، والكل من أجل الفرد".

"الأنانيَّة" و"الغَيْريَّة" ضدَّان، الأولى "مذمومة"، في القيم والمبادئ الأخلاقية، والثانية "محمودة". "الأنانيَّة" هي "الأنا" مضخَّمة؛ أمَّا "الغيريَّة" فهي "الإيثار"، أي تفضيل "الغَيْر" على "الذات". 

وبفضل الثورة، وفيها، لم نرَ من سلوك الشباب الثائر إلاَّ ما يؤكِّد هيمنة وسيادة "الغيرية"؛ ولم يبقَ من "الأنانية" إلاَّ السليم منها. وبفضلها، وفيها، اختفى من الوجود كل ما كان يتسبَّب في جعل المجتمع، أو الشعب، أفراداً لا جامع يجمعهم ويوحِّدهم، ويبتني منهم جماعةً قويةً باتِّحادها ضدَّ الحكم الفردي الاستبدادي؛ ولمَّا اتَّحد الشعب، ونهض، وانتصبت قامته، رأى ما كان عاجزاً عن رؤيته؛ فإنَّ قامة الحاكم لا تبدو طويلة، وطويلة جداً، إلاَّ لشعبٍ في وضع الركوع والسجود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة